إن القاسم المشترك بين الوعظ والخطابة هو الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الله هي أداة بقاء التدين، وسر دوامه وستمراره في المجتمع؛ لأن الدعاة ورثة وظيفة الأنبياء والرسل يبلغون رسالات ربهم شعورا منهم بمسؤولية التبليغ والنصح والإرشاد والتوجيه. ولذلك نجد رسول الله يشبه عمل الدعاة إلى الله بعمل النحل : (مثل المؤمن مثل النحلة لاتأكل إلا طيبا، ولا تضع إلا طيبا،) (ابن حبان والطبراني في الكبير). والحديث عن واقع الوعظ والخطابة هو في الحقيقة رصد لواقع الدعوة لإكتشاف الداء ووصف الدواء.
الهدف : ضرورة استثمار هذا المنبر الاعلامي الاسلامي (الوعظ والخطابة) في وقت أصبح فيه الاعلام أخطر وأمضى أسلحة التغيير والاستقطاب.
الاشكال الذي نريد معالجته في هذا الموضوع هو :
- هل منابر الوعظ والخطابة توظف بكيفية هادفة لخدمة الدعوة الاسلامية؟
- ماهي المعوقات التي تحول دون تحقيق الأهداف المنتظرة من هذه المنابر؟
- هل الخلل يوجد في المرسل أم المتلقي أم الرسالة في هذه العملية التواصلية؟
- ماهي الحلول العملية لتجاوز هذا الواقع للتخلص من النقائص والسلبيات، وتعزيز وتدعيم الإيجابيات؟
وقبل الإجابة عن هذه الأسئلة أود أن أعرف بايجاز بكل من : الدعوة، والوعظ، والخطابة.
- فالدعوة إلى الله يمكن إجمالها في : حث الناس على فعل الخير، وتجنب الشر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليفوزوا بسعادة الدنيا وحسن ثواب الآخرة.
- والوعظ معناه : استثمار المشاعر الدينية بكل ما يوقظها من سباتها لتنبعث إلى عمل الخير، وإلى التبات على الحق. قال زين الدين ابن رجب الحنبلي : المواعظ سياط تضرب القلوب فتؤثر في القلب كتأثير السياط في البدن. وقيل : المواعظ تِرْيَاق القلوب فلا ينبغي أن يسقي الترياق إلا طبيب حاذق معاني، فأما لذيع الهوى فهو إلى شرب الترياق أحوج من أن يسقيه.
وغير تقي يأمر الناس بالتقي
طبيب يداوي الناس وهو سقيم.
- أما الخطابة : فإنه يمكن القول بأن الدعاية والاعلام تعدان من أقوى الاسلحة في تحقيق النصر. والخطابة من أهم أدوات الاعلام فكان لابد من التدرب على استعمال هذا السلاح ليصيب الهدف. وهي في مجملها (أي الخطابة) فن قائم على القدرة على الأداء، وأدب قائم على معرفة أساليب الكلام وحسن التعبير، وجودة ترتيب الأفكار وعرضها كما يعرض التاجر السلعة بكيفيات تستهوي الزبناء، ولذلك عرفها بعضهم بقوله :
-الخطابة : >فن مخاطبة الجماهير، بطريقة إلقائية، تشتمل على الاقناع، والاستمالة.< (عبد الجليل شلبي. الخطابة إعداد الخطيب.ص :13)
وعناصرها كما يحددها المفهوم أربعة :
-1 مخاطبة الجماهير خطابا مباشرا.
-2 الطريقة الالقائية : وتحتاج إلى جودة الإلقاء فصاحة النطق، وتجسيم المعاني، واستخدام الاشارات، وتوزيع النظرات على المخاطبين…
-3 الاقناع : وذلك بإيراد الادلة، وشرحها، وتكرار بعض الجمل، وقوة الشخصية…
-4 الاستمالة : وتتحقق بـ :
- اختيار حسن الأساليب التي تبلغ المقصود من أقرب طريق.
- الواقعية في الخطبة من خلال الاسقاط على الواقع المعيش لتوجيه الناس إلى ما ينبغي فعله للتخلص من أزماتهم.
- مخاطبة الناس على قدر عقولهم و باللغة التي يفهمونها ولو “بالدارجة واللهجات”.
- الغرابة في الاستشهاد : -توظيف القصة- الامثال- أمثلة من الواقع-
- تنوع أسلوب الخطبة بين : الجمل الاستفهامية -والتقريرية- والحوار- الطلب المقرون بالترغيب والترهيب….
ولنعد بعد هذا التعريف الموجز بكل من الوعظ والخطابة إلى محاولة الاجابة عن الاشكال الوارد سلفا لنقول بأن الدور المنتظر من منابر الوعظ والارشاد :
- هما وسيلتان لهداية الناس، وتربية الامة، وتوعية المجتمع، وصياغة الانسان الايجابي الصالح.
- من خلالهما تطرح مفاهيم العقيدة، وتعالج الاحكام والشريعة، وسير الأنبياء والصالحين والمجاهدين.
- مواكبة المشاكل التي تستجد في كل أسبوع لشرح أبعادها واقتراح الحلول المناسبة لها.
- المؤمل أن نبعث في عمار بيت الله روح الجهاد ضد الغزاة والمارقين الذين عانت الأمة منهم عبر تاريخها والذين فرخوا تيارات الالحاد والفسق والفجور في فئة من أبناء المسلمين الذين تتلمذوا على يد بعض المستشرقين والمستغربين.
- استقبال أفواج التائبين الذين بدؤوا رحلة إلتزامهم لتكون الموعظة والخطبة دعما وترسيخا لمشاعر الهداية التي استيقظت في أعماق التائبين.
- منبر الجمعة هو الشجرة الوارفة الظلال التي تفيء إليها الجماهير المسلمة لتستجير به من قيظ الفساد والضياع والانحراف الذي يلوث حياتنا.
المعوقات : إن النظرة الواقعية إلى الخطب والمواعظ الحالية تعطينا صورة مضطربة تحتاج إلى كثير من المقومات السلبية، نظرا لوجودكثير من المعوقات التي تحول دون بلوغ المراد ومن هذه المعوقات ما يلي :
< أولا : عقبة النفس الامارة بالسوء التي تريد أن تظهر الآخرين خاطئىن مذنبين، وإنها دائما على صواب مادمت تعتلي المنابر فيتحول الخطيب والواعظ من داعية إلى قاض يحاكم الناس. وهذه الآفة تعالج بالتواضع وبصحبة الأخيار والنقد الذاتي، وقبول النصيحة، وتقويم الذات باستمرار…
< ثانيا :عقبة السلطة : إذ قد يجهر الخطيب بالحق فيبتلى. والابتلاء سنة لازمة للدعاة عند قول كلمة الحق، وتعالج بطرح المواضيع بحكمة دون تعيين الاشخاص والجهات، وبمواجهة المواقف بصبر وشجاعة :{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَيَسْتَخِفَنَّكَ الذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (الروم 60). ويقول عز وجل : {وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} (السجدة : 24).
< ثالثا : ضعف ثقافة الخطيب وعدم شموليتها، فقد يكون الخطيب أو الواعظ ملما بالقضايا الفقهية ولكن ليس له اطلاع واسع على الواقع الاجتماعي في أبعاده : السياسية، والثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية.. مما يجعله يخوض في مواضيع لايحسن تحليلها ومعالجة قضاياها، وحيلته في ذلك : (كم من حاجة قضيناها بتركها). لكن هذا المعوق يمكن التغلب عليه بالاطلاع الواسع عبر الصحف والمجلات لمتابعة قضايا الساعة والمشاكل الآتية من أجل اثارتها وتنبيه الناس إلى أثرها. وإلى ما ينبغي اتخاذه من مواقف تجاهها (انظر ابن سالم باهشام : الخطب الربيعية ص 6 -5.
رابعا : عدم القدرة على ارضاء جيمع أذواق المستمعين نظرا لتنوع فئاتهم ورغباتهم، وشساعة الفروق الفردية بينهم وما ينتظرونه من الخطيب. وعلاج هذه المعضلة هو أن يدور الخطيب مع الحق حيث دار. فإن الرجال يعرفون بالحق ولا يعرف الحق بالرجال.