لقد كان أهل الجاهلية الأولى يعيشون في ضلالة عمياء، فيحرمون الحلال الذي أخرج الله لعباده دون إذن من الله، وكان هذا من أقبح مبتدعات الجاهلية، وبعض الناس في زمننا هذا وقعوا في منكرات الجاهلية فيعتبرون من جعل رباط العنق على قميصه -يعتبرونه- علق صليباً “Cravatte” وهذا قول عظيم.
قال تعالى : {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق..}(الأعراف : 32)، قال الإمام بن كثير : يقول الله تعالى رداً على من حرم شيئاً من المآكل والمشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله >قل< يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم {من حرم زينة الله التي أخرج لعباده} الآية. قال الإمام البخاري رحمه الله : باب قول الله تعالى : {من حرم زينة الله التي أخرج لعباده}. وقال النبي : >كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة<. وقال ابن عباس : كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك اثنتان سرف، أو مخيلة< (الفتح ج 11 ص 423).
إن الحرام الحقيقي الذي حرمه الله يقيناً، ليس هو الزينة والتجمل ببعض اللباس، وإنما هو الفواحش والمنكرات من الأخلاق والأعمال، فلهذا قال تعالى في نفس السياق : {قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والإثم، والبغي بغير الحق، وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا، وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} أي هذا القول بتحريم بعض الزينة من اللباس، بغير علم من الشرع هو نفسه حقيقة ما حرم الله.
وقال تعالى في نفس السياق : {كلوا واشربوا ولا تسرفوا}(الأعراف : 31)، قال الإمام القرطبي في أحكام القرآن : >ولا تسرفوا< أي لا تسرفوا في تحريم ما لم يحرم عليكم.
وقوله تعالى في نفس السياق : {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}(الأعراف: 29)، قال ابن جرير : >إنه لا يحب المسرفين< أي الغالين فيما أحل بإحلال الحرام، أو بتحريم الحلال، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل، ويحرم ما حرم، وذلك العدل الذي أمر به< (مختر ابن كثير ج 2 ص 15).
فلهذا قال تعالى في نفس السياق : {وكذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون}(الأعراف : 30)، قال سيد قطب : >والذين >يعلمون< حقيقة هذا الدين هم الذين ينتفعون بهذا البيان<(الظلال ج 3 ص 1283). ولقد حذر القرآن الكريم من الكذب في مسائل الحلال والحرام، قال تعالى : {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام، لتفتروا على الله الكذب، إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون}(النحل : 116).
فلهذا كان جمهور السلف رضي الله عنهم لا يطلقون الحرام إلا على ما علم تحريمه قطعا، وإذا لم يجزم بتحريمه كانوا يقولون : نكره كذا، أو لا نراه.. وما أشبهه. فهل من جعل رباط العنف على قميصه بقصد الزينة والتجمل يعتبر علق صليبا على عنقه، والنبي يقول : >إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرأ ما نوى<(متفق عليه)، اللهم إن هذا القول عظيم يهوي بصاحبه إلى الجحيم.