جرت سنة الله أن يكون في كل قوم هادٍ مذكر، وواعظ مبشر، ونظراً لثقل وظيفة التبليغ، وأنها تستغرق معظم أوقات الدعاة. أحياناً يغيب الداعية عن مكتبته وهو يخوض غمار الجهاد الدعوي، فهل يعذر في هذه الحالة أن يبلغ ما يحفظ من كلام رسول الله بمعناه؟ الأصل في المسألة تبليغ النص بحروفه وألفاظه، قال الإمام الشافعي في صفة المحدث، ويكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه، لا يحدث به على المعنى، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحمله معناه، لا يدري لعله أن يحمل الحلال على الحرام، وإذا أداه بحروفه لم يبق وجه تخاف من إحالة الحديث (كتاب المحدث الفاصل ص : 539).
وقال الليث : كان طاوس يعد الحديث حرفاً حرفاً.
هذا هو الأصل في مسألة البيان عند التبليغ عن سيد الأنام، لكن بعضهم رخص في الرواية بالمعنى دون اللفظ إذا كانت الضرورة ملحة، وكانت في ذلك مصلحة راجحة.
عن واثلة بن الأسقع قال : إذا حدثتم بالحديث على المعنى فحسبكم.
وقال الحسن : إذا أصبت معنى الحديث أجزأك.
وكل هذا يشترط فيه عدم تغيير المقصود من الحديث عند زيادة لفظ أو نقص آخر، عن هشام قال : كان الحسن يحدثني اليوم بحديث، ويعيده من الغد فيزيد فيه وينقص، غير أن المعنى واحد.
نعم يجب أن يبقى المعنى واحد، فإذا كان النص يحرم كان المعنى في التحريم، وإذا كان يبيحُ أمراً كان المعنى تبعاً لذلك، عن أبي جمرة قال : قلت لابراهيم النخعي : إنا نسمع منك الحديث، فلا نستطيع أن نجيء به كما سمعناه، قال : أرأيت إذا سمعت تعلم أنه حلال من حرام؟ قال نعم. قال : فهكذا كل ما نحدث.
إذن لا حرج في هذا النوع من الرواية إذا وقفنا على المقصود من حديث رسول الله وقد كان جماعة من السلف يروُون بهذا الشكل، قال ابن عون : كان الحسن والشعبي وابراهيم النخعي يحدثون مرة هكذا ومرة هكذا.
وكان سفيان الثوري يقول : إنما نحدثكم بالمعنى، وكان محمد بن مصعب القرقساني يقول : أيش تشددون على أنفسكم إذا أصبتم المعنى فحسبكم<.
فإذا استطاع الواعظ أو الداعية أن يحفظ النص بألفاظه وحروفه فإن ذلك أجمل وأكمل وأفضل، وإذا لم يقوى على ذلك فلابد أن يحفظ المعنى، عن الشعبي قال قلت لابن عباس : إنك تحدثنا بالحديث اليوم، فإذا كان من الغد قَلَبْتَهُ!! قال : فقال وهو غضبان : أما ترضون أن نحفظ لكم معاني الحديث، حتى تسألونا عن سياقها.