وهل من الضروري النص على الجانب الإنساني للطب في مفهومه الإسلامي إذ يبدو هذا من البديهيات والشريعة تفيض بتعاليم ووسائل البر والرحمة والتعاون والايثار والتكافل ومكارم الأخلاق.. ويزيد من إنسانية هذا الطب فطريته وشموليته وجانبه الوقائي بأبعد مفاهمه. ولنقتصر هنا على القول بأن المريض لا يعتبر “حالة طبية” قد يستأثر بها دون سواها إن هي أهمت اللفيف الطبي لإشباع ما يسمى الفضول العلمي.
ولا ينبغي أن يكون المريض كذلك ميدان التجربة الطبية كالفئران المخبرية، وتحظّر التجربة على المساجين وأسرى الحرب. والإسلام يحترم جسم الإنسان ليس فحسب عند الحياة بل كذلك بعد خروج الروح من الجسد فلا يجوز إطلاقا التمثيل بالجثة أو ببعض أعضائها. ولا يُباح إلا ما أقره العلم والقانون من مصلحة وضرورة لتشريح الجثة دون تجاوزهما وذلك استنادا لقاعدتين أصوليتين في الفقه : “أينما كانت المصلحة فثم شرع الله” و”الضرورات تبيح المحظورات”. وليس من إنسانية الطب أن يبيح “قتل الرحمة” للمرضى الميئوسي العلاج أو دعم الانتحار ورعايته طبيا كما حدث بالفعل في المجتمع الأمريكي(1).
هذا ما كنت دونته سابقا ضمن كتابي “نحو طب إسلامي” في فصل خاص تناولت فيه خصائص ومقومات الطب الإسلامي وصنفتها في سبعة محاور فجاءت مرتبة كما يلي : طب فطري، طب شمولي ومتكامل، طب وقائي، طب إنساني، طب تعبدي، طب عمومي وطب نافع… وقد شرحت كل ذلك، واقتصرت على ما ذكرته سابقا في معرض حديثي عن الطب الإنساني والقضية المثيرة للطبيب الأمريكي الذي كان يدعم حالات الانتحار طبيا ويساعد عليها… وقد نال عقابه.. وأرى من واجبي أن أبسط الحديث في هذا المقال عن إنسانية الطب، مضيفا أنه لم يكن قصدي أن أوهم القارئ أن المجتمع الأمريكي والغربي بصفة عامة غير إنساني، وأن مجتمعاتنا في بلاد الإسلام هيعلى جانب من الأخلاق والفضيلة… بل لا ينازع اثنان أن بلادهم أكثر عدلا ومرحمة وتكافلا اجتماعيا، وعلى غير ذلك من مكارم الأخلاق الإنسانية العامة من بلداننا الإسلامية وذلك باحترامهم لحقوق الفرد والجماعة وتطبيق القانون على التساوي بين الجميع وعلى سائر الأفراد كبر شأنهم أم صغر… وإذا ما حدث شيء من التجاوز للقانون من طرف الأطباء على سبيل المثال أو الممرضين فتكون الحادثة شادة ومثار اهتمام إعلامي واجتماعي وقانوني، وبذلك تصان الحقوق ولا تخدش الكرامات ويرد الاعتبار لكل مظلموم..
وبالمناسبة دعني أحكي لك خبر طبيب آخر بالولايات المتحدة أصدر في حقه القاضي حديثا، حكما بعدم مزاولة مهنة الطب والجراحة مدى الحياة.. فماذا كانت جريمته حتى استحق هذا العقاب؟.. هل قتل عمدا أحد مرضاه؟… أو أقدم على شيء مشين أثناء مزاولته مهنته؟
كل ما في الأمر أنه بعد أن أتم عملية جراحية قيصرية لمريضته في ظروف صعبة وكللت بالنجاح، أخذه شيء من الشطط والزهو بنفسه لما حققه فأقدم على وضع إشارات إسمه (A.Z) على بطن المريضة…!؟ أجل : قلت سابقا “كل ما في الأمر”، وكأني بك ترى ذاك الفعل جريمة شنعاء.. وهو كذلك، وما استصغرت الأمر إلا لكون ما خُدش من أحرف على جلد المريضة لا يبقى له أثر في غضون أيام قليلة قبل برء جرح العملية.. ولا أعتقد أن العقاب الذي أصاب الجراح هو عقاب له لخدشه بطن المريضة لما قد يبقى من أثر ذلك على بطنها، بقدر ما هو عقاب له لخدش كرامة مريضته… لكن الأمر يهون ألف مرة إذا قورن بجريمة غصب في حق مريضة نزيلة بمستشفى الأمراض العقلية كما حدث ويحدث عندنا في بلاد المسلمين.. ومع ذلك لا يصل خبر ذلك على سبيل المثل لفضيحة أخلاقية تنقلها لنا في نفس اليوم قصاصة صحيفة وطنية من أخبار مستشفى الأمراض العقلية كما حدث ويحدث عندنا في بلاد المسلمين.. ومع ذلك لا يصل خبر ذلك عبر قنوات الإعلام… ولا يعاقب المجرم على فعلته. فالفرد عندنا لا قيمة له البتة.. وإليك خبر ذلك على سبيل المثل لفضيحة أخلاقية تنقلها لنا في نفس اليوم قصاصة صحيفة وطنية من أخبار مستشفى المختار السوسي الإقليمي بمدينة تارودانت (لكن الأمر لم يرع إنتباه قناتي التلفزة المغربية عندما تنقلا لنا أخبار ما يجري من متابعة في حق الطبيب الأمريكي السابق الذكر) :
>في الوقت الذي ينتظر سكان إقليم تارودانت، أن تشملهم جميعا التغطية الصحية اللازمة، وأن يحظوا داخل مختلف المراكز الصحية، والمستشفى الإقليمي بما يحفظ كرامتهم من الاهتمام وحسن المعاملة والاستقبال، يفاجؤون بفضيحة أخلاقية أقل ما تستدعيه هو فتح تحقيق نزيه لتقصي الحقائق من أجل الضرب على يد الجناة، وتقويم طرق تسيير المرفق العمومي. إن الأمر يتعلق باغتصاب وحشي لنزيلة قسم الأمراض النفسية بمستشفى المختار السوسي الإقليمي، الفتاة ربيعة بنت العربي بنيدر البالغة من العمر 30 سنة. شابة قروية من دوار “فريجة” منحدرة من أسرة فقيرة تعاني من مرض نفسي نغص عليها حياتها منذ 1982 ولما اشتد عليها في الآونة الأخيرة لاذ أهلها بالمستشفى الوحيد بالإقليم، فإذا بمعاناتهم تتضاعف، وبالعار يلاحقهم لما علموا وتأكدوا من أن بنتهم تعرضت من “ملائكة الرحمة” لعملية اغتصاب وحشية فما كان منهم إلا أن وجهوا شكايتين ضد الجانيين، الأولى إلى رئيس المستشفى الإقليمي والثانية إلى وكيل الملك لدى المحكمة الابتدائية بتارودانت. وإننا إذ نخبر الرأي العام بهذه السابقة الخطيرة بالإقليم، ننتظر أن تأخذ العدالة طريقها لإنزال أقسى العقوبات بالجناة، وأن يفتح تحقيق في الموضوع، والأكثر والأهم من ذلك كله أن ينتبه المسؤولون عن التربية والتكوين والإعلام ببلادنا إلى ضرورة إعادة الاعتبار لقيمنا الحضارية الإسلامية، وإلى أنه لا معنى للحديث عن حقوق الإنسان، وإدماج المرأة في التنمية واحترام المعاقين والعناية بهم ومراعاة حقوق الطفل وغير ذلك ما لم نؤصل لذلك في تربيتنا الإسلامية وثقافتنا الدينية ونركز على بناء الإنسان وتكوينه أو لا وأخيرا< (عن جريدة “التجديد” في عددها 70 بتاريخ 19 صفر -1421 24 ماي 2000 ص 6).
وأضيف هنا لما جاء على لسان مراسل الجريدة، كان على وسائل إعلامنا المسموعة والمرئية أن تهتم بهذه القضية المثيرة وأن تهيب بالجمعيات النسوية ومناضلاتها الفضيلات أن يدافعن عن حقوق تلك الفتاة القروية المسكينة التي كانت ضحية لذئاب جائعة ومفترسة في مرفق عمومي فانتهك عرضها بعد أن كانت ضحية للثالوث المدمر من جهل وفقر ومرض. فهذه هي الواجهة الصحيحة للدفاع عن حقوق المرأة في بلادنا حتى يتسنى لها أن تصبو لأدنى الحقوق الإنسانية بله المطالبة بإدماجها في تنمية لا وجود لها وهي تعاني ما تعانيه من ظلم.. فليت القانون النزيه ينصفها ويكون في مصاف عدل القانون الغربي.. ونحن “حداثيون” ومتفتحون على الفضيلة أيا ما كان مصدرها شرقيا أو غربيا.. ولا ننهج إلا ما شرع ربنا جل شأنه في كتابه المحكم مقتدين بسنة نبينا رسول الله ولا نبغي عن شريعتنا بديلا.
وليت الأقلام الحرة غير المأجورة تتجند وتهب للدفاع عن القروية التي انتهك عرضها ووصمت في شرفها وخدشت كرامتها.. وكم من مثيلاتها!!..
وهلا حركت هذه القضية الرأي العام الوطني للدفاع عن أعراض بناتنا وشرف أسرنا.
بالأمس لما كان للدولة الإسلامية شأنا، صرخت إمرأة مسلمة : >وا معتصماه!..< لظلم أصابها في بلاد العجم فتنامى نداؤها لخليفة المسلمين وأقضت مضجعه فهب المعتصم مسرعا لنصرتها وتحركت جيوش الإسلام من مشارق الأرض لنجدتها!..
فمن يهب لنصرة تلك الفتاة القروية؟ وهل لها أن تستحق من إعلامنا ما استحقه بطن سيدة أمريكية خُدش في قارة وراء المحيط؟!… لقد تنتهك أعراض.. ولا من يستنكر ولا من يحرك ساكنا.. وأين السادة النواب البرلمانيون من هذا الأمر الخطير الذي اهتز له عرش الرحمان؟ وأين منظمة حقوق الإنسان؟ وما رأي السيد وزير الصحة من كل ذلك؟… هل يُسكت ويُغض الطرف عن المجرمين؟.. القصاص، القصاص يا أمة الإسلام… وإلا لا حاضر ولا مستقبل لبلادنا في غياب العدل وصيانة الحقوق وعقاب المجرمين…