إن ميدان الدعوة والإرشاد ميدان رحب يُبدي العاملون لله فيه ويظهرون سمو التشريع الإسلامي ونصاعته ونُبْل مقصده، ويُظهرون أن الله تعالى في كتابه الكريم، وأن نبيه وعبده ورسوله في سنته لم يشرع شيئا إلا إذا كانت فيه مصلحة للمجتمع يُواكبها، وتواكب التطور ولا يأباها ولا تأباه، وأنه كلما تطورت الأحوال وتقدمت الحضارة إلا وكان هذا التقدم شاهداً قويا على أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وعلى أنه دين ودنيا خالد بسموه خالد بعقلنيته، خالد بأسراره التشريعية ومقاصده السامية. وإنه كثيراً وعلى مختلف العصور المتعاقبة تظهر هزات وبلبلات في بعض الأفكار حول بعض التشريعات الإسلامية، وتظهر تساؤلات ومطالبات ومزايدات -ويأبى الله ولله في خلقه شؤون- إلا أن تظهر هذه الهزات لتظهر مواقف العلماء والدعاة المخلصينلله ولدينهم للقضاء إن شاء الله تعالى على كل الشبه والتساؤلات، ولمحو كل الفهوم المنحرفة والمتشككة في صلاحية هذه التشريعات.
ففي خصوص ميدان :المرأة بين دينها وهواجس شيطانها يبينون ازدواجية المرأة والرجل وأن كل واحد منهما مكمل للآخر في تكوينه البدني والأخلاقي والنفساني، وأنه كما أنه لولا النهار ما عرف الليل، ولولا الضياء ما عرفت الظلمة ولولا الجمال ما عرفت الذمامة وبالعكس، فكذلك لولا الرجل ما عرفت المرأة ولا كانت، ولولا المرأة ما عرف الرجل ولا كان {ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون}(الذاريات : 49)، ويبينون أن التشريع الاسلامي قد راعى ونظر في أسراره التشريعية ومقاصده إلى الهيئة التركيبية الخلقية والخُلقية للمرأة والرجل فأعطى كل ذي حق حقه، فلم يبخس أحداً منهما والشك في هذا شك في حكمة الخالق وحسن تدبيره وكامل إرادته {صُنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبيرٌ بما تفعلون}(النمل : 88).
وقد تكفلت كثير من الكتب ببيان الأسرار والمقاصد من التشريعات المتعلقة بالمرأة التي هي شطر الجنس البشري، والتي أهميتها لا تقل عن أهمية الرجل مع فوارق يقتضيها التركيب البدني والذكوري والأنوثي وكثيرا ما يخطُر بفكر بعض المذبذبين أن قسمة المواريث لو وقعت على غير الوجه الذي شرعه الله في كتابه كانت أنفع وأصلح، ولم يطلع هذا البعض على أن العرب في جاهليتهم قبل البعثة كانوا لا يورثون إلا الرجال الأقوياء الذين يقاتلون على الخيل ويدافعون عن الحريم ويأخذون الغنيمة، وما كانوا يورثون الصبيان والنساء والضعفاء.
وقد قال الخليفة عمر رضي الله عنه : ((من لم يعرف الجاهلية لم يعرف الإسلام))، روى عطاءُ قال : استُشهد سعدُ بن الربيع وترك ابنتين وزوجة وأخاً فأخذ الأخ المال كله، فأتت الزوجة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : يارسول الله : هاتان ابنتا سعد، وإن سعداً قتل، وإن عمهما أخذ المال كله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ارجعي فلعل الله سيقضي فيه ثم إنها عادت بعد مدة وبكت فأنزل الله تعالى {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساءً فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك}(النساء : 11)، فدعا عليه السلام عمَّهما وقال له : أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثمن وما بقي فهو لك، فكان هذا تشريعا إلاهيا وفريضة منه سبحانه يجب الانقياد إليها، يقول سبحانه : {فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما} فهو سبحانه العالم بمغيبات الأمور وعواقبها ومصالحها وأسرار التشريعات المتعلقة بها قال تعالى : {فلا وربك لا يومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليما}(النساء : 65)، والآية في تحكيم الرسول فكيف بتحكيم الله تعالى العالم بالخفايا الخالق الحكيم المدبر؟؟!
وبعد فالذي أريد أن أذكره في هذه العجالة وأؤكد هو أن النصوص التشريعية إذا كانت صريحة قطعية الورود والدلالة فلا محل للاجتهاد فيها ولا للمطالبة بتعديلها، ولا للإحتكام فيها، والواجب أن ينفذ ويطبق النص على جميع شؤون الحياة الاجتماعية إذ هو قطعي الورود فليس صدوره ووروده عن الله تعالى موضع بحث ولا مجادلة ولا مواربة، وهو أيضا قطعي الدلالة فليست دلالته على معناه واستفادة الحكم منه موضع بحث واجتهاد، إذ كل ما علم من الدين بالضرورة لا يكون مجالاً للاجتهاد، والمطالبةُ بتعديله في الحقيقة مطالبةٌ بنَسْخه، ولا نسخ لحكم شرعي بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وما أُدُّعي من أن النصوص التشريعية كلها ظنية الدلالة افتراءٌ على الله ثم على شريعة الإسلام، إذ وقع الإجماع من الصحابة والتابعين فمن بعدهم على أن ءايات المواريث كلها قطعية الدلالة لا تحتمل غير ما فهموه منها وما طبقه النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون فمن بعدهم، وكذلك ءايات الحدود {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}(النور : 2) وكذلك ءاية القذف {والذين يرمون المحصنات ثم لم ياتوا بأربع شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة}(النور : 4) وكذلك ءاية الحرابة {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض}(المائدة : 36)، وكذلك كفارة اليمين {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة}(المائدة : 89)، وكذلك المقدرات في الشريعة الإسلامية كنصاب زكاة الأموال والحرث والأنعام وزكاة الفطر وكذلك العبادات صلاة المغرب ثلاث ركعات والصبح ركعتان الخ كل هذا وغيره ممّا علم من الدين بالضرورة قطعي النصوص قطعي المعنى لا يقبل التعديل.
فإذا ما فتحنا المجال للذين يطلبون في ميدان الإرث والطلاق وكثير من أحكام الأحوال الشخصية تشريع أحكام جديدة تناسب في زعمهم المجتمعات زمانا ومكانا وظروفا وإلغاء الأحكام التشريعية “القديمة” التي أصبحت في نظر العلمانيين متجاوزة لا تلبي رغبات التقدم الحضاري ولا المفاهيم العصرية في نظرهم سواء كانت الأحكام التشريعية المتجَاوَزَة عندهم سماويةً مستندة إلى نص سماوي أو كانت مما تواضع عليه علماء التشريع الإسلامي الذين يستندون إلى قواعد أصُولية استنبطوها من النصوص القرءانية أو الحديثية.
وأيضا إذا ما فتحنا المجال لكل من هب ودب للمطالبة بتعديل النصوص وفتحنا المجال للمعدلين أصبحت كل النصوص من كتاب الله وسنة رسوله مجالا لطلب التعديل سيما ءايات الحدود وإن كانت لا تطبق الآن، وأصبحنا نعمل بهوى وشهوة كل الهاوين المتشهين المتهوسين، وبالتالي أصبحنا معدّلين في عباداتنا وتشريعنا وأخلاقنا وأصالتنا، وهذا ما نسميه بعلمانية التشريع وهو كفر بالقرءان والسنة وخروج عنهما.
وهذا ما يجب على كل عالم وداعية وواعظ أن يبينه ويدافع عنه ويقف ضدا على المسِّ به حتى ينتهي الأَغْرَارُ عن دعوى أن كل نصوص القرءان والسنة ظنية الدلالة تقبل التعديل، والسكوتُ عن هذا إخلالٌ بواجب قوله تعالى : {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهُدى من بعد ما بيَّنّاهُ للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا وأصلحوا وبينوا فأولائك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم}(البقرة : 160)، وهو أيضا إخلال بما خاطب به سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفَاسِقُون، أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}(المائدة : 50).
وهذا ما يتعلق بالعلمانية في التشريع، أما العلمانية في العقيدة فقد سبق أن كتبت عنها في كتابي “الله أكبر حقا وصدقا” : “العقيدة الإسلامية السلفية” بصفحات -102 104، تحت عنوان :
معنى العلمانية والقدرية شيء واحد : فكلمة العلمانية ترادف كلمة القدريين، إذ معناهما واحد فهما من قبيل المشترك المعنوي لفظهما مختلف ومعناهما واحد الذي هو نسبة الأفعال المحدثة إلى البشر واقتطاعها عن الخالق للكون الذي هو الله سبحانه.
فالعلمانيون والقدريون كلهم يقولون إن ما يظهر على يد المخلوق وبسببه من ابتداعات واختراعات قدرة الإنسان المخلوق هي التي خلقتها وابتدعتها ولا أثر لقدرة الرب فيها متجازين ومنكرين قوله تعالى {الله خالق كل شيء} فيجعلون مع الله ءالهة تُبْدِع وتخترع وتخلق. وهكذا يمكننا أن نعرف العلمانية والعلمانيين والقدرية والقدريين بأنهم الذين يقتطعون الموجود المخلوق عن الموجد الخالق والشيء المخترع عن مبدع السماوات والأرض وما فيهما من أسرار كونية منها ما اكتشف ومنها ما لم يزل مذخوراً، ويقولون كذلك إن الإنسان هو خالق الخير والشر.
شيخ العلمانية هو قارون
وشيخ العلمانيين وزعيمهم، ولعله هو الذي ابتدأت منه العلمانية هو قارون الذي حكى الله عنه في سورة القصص الآيات -76 83 : {إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم، وءاتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتَنُوء بالعُصبة أولي القوة} وذلك حينما نسب قومه حصول هذه الكنوز التي كانت تحت تصرف قارون -وهي التي كانت مفاتح خزائنها تثقل وترهق كواهل الجماعة القادرة على حمل الأثقال- إلى الله تعالى وقالوا له : إنه سبحانه هو الذي أتاه إياها بعد أن خلقها وهيأها له بعلمه وإرادته وقدرته سبحانه {وابتغ فيما ءاتاك الله} فأنكر عليهم قولهم {ءاتاك الله} وقال لهم : {إنما أوتيته على علم عندي} لا بعلم الله وإرادته وقدرته، إذ العلم تتبعه الإرادة والإرادة تتبعها القدرة، فالعلم صفة ينكشف بها الشيء ثم يراد إيجاده ثم يوجد بالقدرة إذ هي الموجدة بعد العلم ثم الإرادة، فكان قارون يقول لقومه الذين نسبوا ايجاد تلك الكنوز إلى قدرة الله سبحانه وتفضله بها عليه في دره عليهم : إنما حصلت على هذه الكنوز بقدرتي وبإرادتي وبعلمي لا بقدرة الله كما تزعمونه وقد حكى الله عن قارون هذا في قوله سبحانه : {قال إنما أوتيته على علم عندي}.
فالعلمانية زندقة وإلحاد وإنكار لعموم ربوبية الرب سبحانه لأنها مخلة بأصل العقيدة ومن فساد عقيدتها انبثقت علمانية التشريع التي تحاول فيما تحاول إخراج المرأة من ظلال الشرع وضيائه إلى جحيم المنكر وظلامه ومن السعادة المكفولة لها في حضارة الاسلام إلى الشقاء المرصود لها في حضارة الجسم والنزوات والشهوات؛ إن علمانية التشريع كفر بالقرآن والسنة وخروج عنهما إلى شهوة المتشهين المتهوسين، إن كيد الشياطين البشرية يتجلى في كثير من نواحي الحياة فمن إباحة الربا إلى اباحة العري إلى إباحة الزنا إلى إباحة الزواج المثلي إلى إباحة الإجهاض دون سبب مشروع إلى فتح أبواب المنكرات وإغلاق أبواب المعروف والخير. فلتكن المرأة المسلمة على حذر من هؤلاء الشياطين وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
العلامة أحمد الحبابي
من علماء القرويين