عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ((إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)) متفق عليه.
توطئة :
لقد خلق الله الإنسان مكلفا، فهو المكلف بعبادة الله وإعمار الأرض بالقيم السماوية والعمل الصالح، وتسخير ما خلق الله له لتحقيق الغاية من الوجود، وبالتالي تحقيق السعادة الدنيوية والأخروية له، ولكن هذا التكليف ليس تكليفا إجباريا قسريا إكراهيا، وإنما اقتضت إرادة الله أن يكون تكليفا اختياريا إراديا طواعيا بعد أن أخبر أنه عبد لله كرها وبقوة الوجود.
قيمة العقل في الإسلام :
وكما أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف إلا بعد أن يوفر للمكلف الأدوات والآلات التي يحتاجها والتي تمكنه من القيام بما كلف به . ولما كان الاختيار وتحمل مسؤوليتهيتطلب آلة تمكن الإنسان المكلف بهذه المهمة من التمييز والتفريق بين الخير والشر وبين ما هو حق وما هو باطل، يختار بإرادته، فقد جعل الشارع العقل مناط التكليف ليمكنه من الاختيار وتحمل ما يتبع ذلك من مسؤولية. والعقل في نظر الإسلام هو آلة المؤمن وعدته لمواجهة الحياة والتكيف لها وتحقيق الغاية من وجوده بشكل يؤدي به إلى السعادة الأبدية التي هي الغاية القصوى للمؤمن.
وبما أن خلق الإنسان خلق مركب من عنصرين هما : العنصر الترابي الطيني المادي، والعنصر العلوي السماوي ذو السمة الروحية من رب العالمين في تمازج عجيب وصنع محكم سوي من بديع السماوات والأرض {وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين}(الحجر : 29) فإن مهمة العقل هي إحداث توازن واعتدال بين مطالب الروح ومطالب الجسد حتى لا يطغى أحدهما على الآخر. فإذا صلب عوده ورجحت قوته واتقد نوره كان بينهما برزخا لا يبغيان.
ولكن العقل الفطري الذي منحه الله سبحانه وتعالى للإنسان وأنعم به عليه والمولود معه، في نظر الإسلام، هو عقل محدود تقتصر قدرته على تحقيق الحاجات الفطرية الأساسية للإنسان، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد جعل في هذا العقل الفطري القدرة على النمو بالخبرة والتجربة والتربية والتدريب والاكتساب، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤكدا مسألة الاكتساب والنمو في العقل : ((وما اكتسب رجل مثل فضل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى، وما تم إيمان عبد ولا استقام دينه حتى يكمل عقله))(أورده الغزالي في كتاب العلم ص 235).
ولأهمية العقل هذه في التأثير على سلوك الانسان ومصيره نجد أن الله سبحانه وتعالى، كما جعل للعقل القدرة على النمو والاكتساب، فقد جعل هذا الاكتساب لتحقيق الكمال للعقل واجبا على الإنسان وهو مكلف في تحقيقه فقال عز وجل : {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا}(الإسراء : 36).
فكيف يتحقق الكمال النسبي للعقل؟ وكيف ينظر الإسلام إلى الإنسان عقلا وجسدا وروحا؟ وما هي الجوانب التي يجب رعايتها وتنميتها في شخصية الإنسان؟ وما هو المنهج المعتمد في صياغة وصناعة حماة الإسلام ودعاته؟.
تعتبر التربية هي المنهج الذي سلكه المربون في إعداد الإنسان لتنمية ورعاية قدراته الجسمية والروحية والعقلية. وجعل الإسلام الدعوة إلى طلب العلم فريضة لازمة من أجل صقل ملكات الفكر واكتساب المعرفة اللازمة للنهوض بحياة الإنسان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجعل من الحلقة التربوية وسيلة لتعليم أصحابه ويتلو عليهم آيات الكتاب العزيز، ويعلمهم الحكمة ويزكيهم بالصلاة والزكاة والصيام والمداومة على الذكر والاستغفار ويضع أيديهم على أسرار الكون عن طريق التدبر والتأمل في آيات الله في الكتاب المنظور جاعلا من التفكر في خلق السماوات والأرض برهانا ساطعا ودليلا قاطعا على وجود الإله الواحد المتفرد بتدبير شؤون العالمين، وقد استطاع المنهج التربوي الذي ربى به صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يؤسس في مدة وجيزة من الزمن دولة غيرت وجه التاريخ ونقلت العرب من أقوام مشتتين متنافرين متناحرين رعاة الإبل إلى أقوام متآلفين متحابين متآزرين صالحين مصلحين رعاة الأمم، شيدوا حضارة إسلامية على أنقاض حضارة الفرس والروم فكانوا فرسانا بالنهار رهبانا بالليل، أشداء على الكفار رحماء بينهم، والذي يتأمل واقع المسلمين اليوم يرى أن الأمة التي كانت رائدة بالأمس قد تجاوزها الركبان وصارت في ديل القافلة وسلبت منها القيادة والريادة، فهل أمتنا الإسلامية في حاجة إلى ثروة بشرية للنهوض؟ وهل هي في حاجة إلى المعادن المذخورة والثروات المنشورة؟ أم أنها في حاجة إلى الرؤوس المفكرة والعقول المدبرة؟ أما حاجة الأمة الإسلامية إلى ثروة بشرية فإن عدد المسلمين اليوم وهو يفوق المليار نسمة لدليل على أن عدد المسلمين هو سر التخلف لأنهم غثاء كغثاء السيل، وإن المعادن المذخورة والثروات المنشورة في أقطار العالم العربي والإسلامي في بره وبحره وسمائه وأرضه كفيلة بأن تجعل من أمة الإسلام والعروبة أقوى سوق اقتصادية في العالم.
والحقيقة أن ما تحتاج إليه الأمة الإسلامية اليوم هو الرؤوس المفكرة والعقول التي تستغل الطاقات المذخورة وتوجه الثروة البشرية إلى الاستفادة من إمكانياتها وقدراتها، إنها تحتاج إلى رجال ذوي عزائم قوية يحملون لواء الحضارة الحقة، وتنهض بهم رسالة الإسلام، وتحيا بهم الأمة الهامدة. فالأزمة في صورتها الواضحة هي أزمة تربية. فالرجل هو أعز من كل معدن نفيس، وأغلى من كل جوهر ثمين، ولذلك كان وجوده عزيزا في دنيا الناس، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إنما الناس كإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة))(متفق عليه من حديث ابن عمر)، الرجل الكفء الصالح هو إكسير الحياة، وروح النهضات، وعماد الرسالات، ومحور الإصلاح، فلو أعدت الأمة ما شاءت من معامل السلاح والذخيرة فلن تقتل الأسلحة إلا بالرجل المحارب، ولو سطرت الأمة ما شاءت من القوانين واللوائح فستظل حبرا على ورق ما لم تجد الرجل الذي ينفذها، ولو وضعت الأمة ما شاءت من مناهج التربية والتعليم فلن يغني المنهج إلا بالرجل الذي يقوم بتدريسه، ذلك ما يقوله الواقع الذي لا ريب فيه، إن القوة ليست بحد السلاح بقدر ما هي في قلب الجندي، وإن العدل ليس في نص القانون بقدر ما هو في ضمير القاضي، وإن التربية ليست في صفحات الكتاب بقدرما هي في روح المعلم.
ومواصفات الرجل المطلوب لا يمكن الحصول عليها إلا بالتربية الدائمة المستمرة التي تبصر الإنسان بالمسؤولية الملقاة على عاتقه، وتحفزه على الارتباط القوي بالله، فيتزود بالطاقة والقوة التي تحمله على أن يعطي قبل أن يأخذ، وأن يؤدي واجبه قبل أن يطلب حقه : واجبه نحو نفسه ونحو ربه ونحو بيته ودينه وأمته. ولما كانت طاعة الله والتقرب إليه وعبادته وابتغاء مرضاته هي هدف المنهج التربوي الإسلامي، فإن ما يترتب على العمل التربوي من نتائج وآثار تجعل منه أسمى وأكمل غاية للإنسان في حياته، ومن هذه الآثار :
-1 أن يدرك الإنسان غاية وجوده في الحياة : إن الإنسان إذا عرف غايته من الوجود، كان لحياته قيمة ومعنى، فعمرها بالخير، واشتغل كل جزء منها في العطاء، وعندها تغيب من واقعنا صور اللامبالاة وعدم الانتماء والطيش وتبذير الأموال وإزهاق الأرواح وقتل الأوقات.. وما إلى ذلك من الأدواء التي تنخر في جسم الأمة ضعفا وإيهانا.
-2 توجيه الأعمال الإنسانية نحو مركز جذب واحد : مع ما يحدثه من تجانس وتوافق وانسجام شامل في أعمال الإنسان، وبما يتركه من أثر عميقفي وحدة الشخصية البشرية وتماسكها وخلوّها من آفة التمزق والصراع. وما أروع وأبلغ ذلك المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه لمن تعددت بهم المناهج وتضاربت من حولهم التيارات وهم بين هذه وتلك في حيرة وضياع، يقول الله تعالى : {ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا}(الزمر : 29).
-3 تحرر الإنسان من عبودية غير الله:
فبخالص توجهه إلى الله تعالى يتحرر الإنسان -بفعل التربية- من أنانيته وشهواته، فلا يأخذه أشر ولا بطر، ولا يستخفه غضب ولا حظ نفس، ولا يستهويه منصب أو مال حصل عليه بالحرام، ولا تستعبده شهوة محرمة أو لذة من الرجس، بل يتعالى على كل ذلك إرضاء لدينه، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : ((تعس عبد الدينار والدرهم، والقطيفة والخميصة إن أعطي رضي وإن لم يعط لم يرض))(رواه البخاري في صحيحه في باب الرقاق 115/8).
-4 تحقيق التوافق والانسجام بين الفكرة والعمل و الارتباط بالهدف الثابت: والعمل التربوي من شأنه أن يوجد تجاوبا وانسجاما بين أفكار الإنسان ونيته ومعتقده وبين أعماله وتصرفاته، فيتوجه بكليته إلى هدف تتصاغر دونه الأهداف، وإلى غاية تسمو على جميع الغايات.
-5 وحدة الجماعة الإنسانية : لما كان كل فرد وكل جماعة وكل أمة من أمم الأرض مدعوة إلى الدينونة بمنهج الله، وإلى أن تيمم وجهها شطر ذات إلهية واحدة ترتبط معهم ومع جميع الكائنات بعلاقة متساوية عنوانها {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}(الأنبياء : 92) فإن هذا الربط يكفل إنشاء عواطف التكافل والتعاون والأخوة، ويستأصل بذور الشقاق والتباغض والحسد من بين أفراد البشرية ويجمعها في وحدة شاملة تذوب في إطارها فوارق الألوان والأجناس والأموال.
- هذا قليل من كثير ما يجب أن يسعى العمل التربوي إلى تحقيقه عن طريق نقل المعارف والاتجاهات والميول والعواطف حتى تحصل القناعة والاستمالة من أجل اعتناق مبادئ الإسلام وتمثلها في سلوك الإنسان المسلم لتصير منهج حياة يميز الفرد المسلم والمجتمع المسلم والدولة المسلمة والأمة الإسلامية، فالعمل التربوي هو صمام الأمان الذي يُحصن الأمة من الذوبان من خطر شبح العولمة الذي يداهم الأمم والشعوب، ويقتحم من غير استئذان ولا سبيل لإصلاح ما فسد من الأمة إلا بما صلح به أولها. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ذ. محمد بن شنوف