بصدور مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين، نودي أنه مشروع من أجل مدرسة وطنية حية جديرة باستقبال ودخول القرن المقبل، وتم تقديمه كمشروع يندرج ضمن طموح جماعي يرمي إلى منح التلاميذ مدرسة حية منفتحة، وللمدرسين فرصة لتحسين كفاءاتهم في ظروف اجتماعية محفزة وللآباء والأولياء مجالا للمشاركة، وللفاعلين الاقتصاديين الاستفادة من عطاءات مدرسة وثيقة الارتباط بعالم الشغل، وللمسؤولين أخيرا نهجا لامركزيا حقيقيا على كل المستويات. هذا المشروع الذي أعدته اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين تضمن في قسمه الأول من المبادىء الاساسية فيما يتعلق بالمرتكزات الثابتة ما يلي :
(يهتدي نظام التربية والتكوين للمملكة المغربية بمبادىء العقيدة الاسلامية وقيمها الرامية لتكوين المواطن المتصف بالاستقامة والصلاح، المتسم بالاعتدال والتسامح..)
وهذا التنصيص صراحة على مرتكز العقيدة الاسلامية في نظام التربية والتكوين، شيء إيجابي ينسجم مع اسلامية الدولة وتدين المجتمع بدين الاسلام وانشغال العلماء والدعاة بهمّ الدعوة وأمر الدين والتدين في بنية المؤسسات وقوانينها وواقع حياة الناس وعيشهم، كما أنه يعتبر مستندا شرعيا وقانونيا للدعوة إلى اسلامية التعليم والمطالبة بربطه بمقتضيات العقيدة وأحكام الشريعة، إن هذا المرتكز يقتضي تعميق المفاهيم العقائدية والتربوية في كل جوانب العملية التعليمية والتربوية في كل أطوارها وأسلاكها وتخصصاتها، ليتسنى تخريج الكفاءات والأطر في شتى الحقول المعرفية العلمية غير مفصولة عن إسلاميتها وهذه ضمانة كبرى لتنمية حقيقية، إذ أن تخريج الانسان المربى على قيم دينه أولا والمتخصص في مجال علمي ما هو أساس البناء الاجتماعي المرشح للنهضة والتنمية. وبهذا يتضح أن المقصود ليس عزل العنصر العقدي أو الشرعي في نمط تعليمي وحرمان نمط آخر منه أو تقليصه، ولكن المطلوب هو توحيد الأساس العقدي والتربوي في التعليم كله وجعله الأساس والمنطلق والفلسفة والمنهج في التعاطي مع كل الظواهر والقضايا العلمية سواء تعلق منها بالعلوم الحقة أو التجريبية أو الانسانية. أما جانب التخصص بطبيعة الحال فذلك من صلاحيات مؤسسة التعليم الديني لتخريج الأطر والكفاءات العالمة بشؤون الدين اجمالا وتفصيلا. إنه لابد للمسلم أن يكون له رصيد من المعلوم من الدين بالضرورة في موضوعات العقيدة والعبادات والمعاملات. ولابد له من تشكيل عقله بمفهومات العقيدة الاسلامية لكي لا يسقط في فلسفات غربية تناقض العقيدة في تعاملها مع الظواهر الطبيعية والحقائق العلمية والشؤون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعلاقات الدولية.
ولقائل أن يقول إن ما تدعو إليه لم يغفله الميثاق فها هو ذا التعليم الأصيل وارد في نصه. فأقول إذا كان التعليم الأصيل قد أدرج في ديباجة المشروع كمكون من مكونات نظام التربية والتكوين الذي يشمل التعليم الأولي والتعليم الابتدائي والتعليم الاعدادي والتعليم الثانوي والتعليم العالي ثم التعليم الأصيل أخيرا. فإن لي ملاحظات نقدية على ذلك الادراج :
أولا : إن قصر الأولوية على المستويات الثلاث الأولى خلال العشرية الوطنية للتربية والتكوين، يوحي بمسائل : منها أن هذا يعني عدم أولوية التعليم الديني أو الأصيل مع التعليم الثانوي والعالي.
ومما يدل على انعدام الأولوية -أيضا- بالتعليم الديني الحيز الضيق الذي خصص للتعليم الأصيل خلافا لغيره. وهذا نص ما ورد في الميثاق : (تحدث مدارس نظامية للتعليم الأصيل من المدرسة الأولية إلى التعليم الثانوي مع العناية بالكتاتيب والمدارس العتيقة وتطويرها وإيجاد جسور لها مع مؤسسات التعليم العام. تنشأ مراكز متوسطة لتكوين القيمين الدينيين، وتراجع التخصصات بناء على المتطلبات الآنية والمستقبلية.
يقوى تدريس اللغات الاجنبية بالتعليم الأصيل.
تمد جسور بين الجامعات المغربية ومؤسسات التعليم العالي الأصيل وشعب التعليم الجامعي ذات الصلة على أساس التنسيق والشراكة والتعاون بين تلك المؤسسات والجامعات) انتهى النص بهذا الاختصار والتركيز.
ثانيا : إن النص المذكور أعلاه، يمكن فهمه من جهتين :
فأما الأولى أن يفهم من هذا الإيجاز اندراج التعليم الأصيل في تقسيمات التعليم العام من الأولي فما فوق من حيث التنظيم والتقنين وبالتالي تنطبق عليه تفصيلات ذلك وهذا مستبعد. وأما الثانية أن يفهم من هذا التركيز والتقليل إرادة التخلص من تنظيم هذا النمط من التعليم ووضع الهياكل المنظمة والبنيات المناسبة له، وهذا منحى راجح ووارد لاعتبارات :
أولها : العبارات والمفردات التي صيغ بها نص التعليم الأصيل والتي لا دلالة لها وليس لها معنى اجرائيا وواقعيا محددا كعبارات : مع العناية / وتطويرها/وإيجاد جسور لها.
ثانيهما : التدخلات الاجنبية، وتنبه لعبارة : “يقوى تدريس اللغات الاجنبية بالتعليم الأصيل”. ولابد هنا من رجعة إلى التاريخ فالكل يعلم أن التعليم الديني بالمغرب كان هو المعتمد في التعليم الدراسي أساسا، مع مطلع القرن العشرين عرف المغرب تدخلات اجنبية -خصوصا الفرنسية والاسبانية- في شؤون التعليم. وعملت هذه التدخلات على إقامة نظام تعليمي غير أصيل بديل زاحم وقاوم التعليم الشرعي الأصيل. وجامعة القرويين وحيدة عصرها شاهدة على زمان تعدد الجامعات ولا أخت لها في سوق الجامعات المدنية. وجاءت هذه التدخلات بعد دراسات نظرية وميدانية كان القصد منها التعرف على التعليم الاسلامي للتدخل فيه والتأثير في مساره، ونلاحظ أن هذا المنحى لازال حاضرا في عقلية الاجنبي -لحساسية قطاع التعليم في تشكيل الهوية والحفاظعليها- لكن هذه المرة من خلال العنصر البشري المحلي المتغرب والمستلب من خلال الضغط الاقتصادي ترغيبا وترهيبا، ولعل حضور توصيات صندوق النقد الدولي أكبر دليل على ذلك إذ خضعت الوثيقة لمضامينها من حيث نفقات الدولة نفي المجانية والتملص من مسؤولية الدولة على التعليم.
وأخيرا فهذه بضع مسائل جاد بها الخاطر في لحظات من قراءة مشروع الميثاق الوطني للتربية والتكوين من جهة وضعية التعليم الاصيل وجانب الاصالة عموما فيه، أختمها بجمل مفيدة :
- إن التعليم هو روح الأمة وقلبها النابض الذي منه تتدفق طاقات الأمة من أطر وكفاءات تسري في مؤسسات المجتمع وبنياته سريان الكويرات الدموية في عروق وخلايا سائر الجسم فإن تسممت أو دمرت، شل بل مات الجسم.
- إن الخضوع المطلق للاجنبي/الغرب، سيؤدي إلى سلخ المجتمع من أهم مراكز هويته وأصالته وعقيدته وهو مؤسسة التعليم الديني الشرعي الاسلامي الأصيل.
إن ضمير الأمة ما زال حيا ينبض بالخير والغيرة والطموح لتفعيل دور الدين في الحياة. لتكتمل صورة مجتمع متدين يعيش عصره ويبني حضارته في عزة وقوة وعلم.
ذ. محمد الحفظاوي