من سمات التخلف الكبرى الخلط في المصطلحات، الخلط في المفاهيم، الخلط في الأهداف، الخلط في التوجهات، الخلط في المواضيع، الخلط في الخطاب والمَعْنِيِّين به، إلى غير ذلك من أنواع الخلط والتخليط المقصودة للتَّنْفِيس عن مَكْبُوتَاتٍ موروثةٍ أو مورَّثَةٍ لتعطيل الفكر عن السَّيْرِ في الاتجاه الصحيح الكفيل بانتشال الإنسان من وهْدَة التخلُّفِ والهبوط الحضاري السحيق.
والاجْتِهَادُ من الكلمات والمواضيع التي تعاوَرَتْها الأقلامُ، وتداوَلَتْها الألْسُنُ -في الأيام الأخيرة- تداوُلاً يَدُلُّ على قصور في الفهم والنظر، وتخلُّفٍ في التَّنَاول والمعالجة، وتكلُّسٍ وتحجُّر في الذِّهنية المُغْترِفة من بَحْر الأنانية المَقِيتَة.
فالاجتهاد ليس هو استنباط الأحكام الفقهية العملية من النصوص لتغطية حاجات الأمة في التشريع للقضايا المتجددة فقط، فهذا اجتهاد خاص، له رجال أصْحَابُ مُؤهِّلاَتٍ خاصَّةٍ، ينبغي توفير الظروف الخاصة بهم، والمؤسساتِ المناسبة لِقَدْرهم، والتشريع المؤسِّسِ لهَيْبَتِهم ونوعيتهم ومجالهم حتى لا يتطاول المتطفِّلُون على قُدْسِيّةِ الحَرَم الاجتهادي المنتسب للْوَحْي المقدَّس، والرسالة المقدَّسة، والعلم الربّاني المقدس.
ولكن الاجتهاد المطلوب هو قَلْب توجُّهات الإنسان الضيقة إلى توجهاتٍ أرْحَبَ أُفقا، وأوْسَع شُمُولاً وغايةً ومقاصدَ نبيلة، وأكْثَرَ إيجابيّةً وقَبُولاً، فهذا الاجتهاد هو الذي يُحدث ثورة حقيقية في أعماق النفس والضمير، ويُؤَدِّي إلى :
-1 تصحيح النظرة للإنسان، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى، ولا فرق في ذلك بين الأبيض والأسود، والعَربي والعجمي، فالكُلُّ أمام الله سواء، والكلُّ أمام الحاجات والضرورات سواء، والكُلُّ في القابليّة للخير والبناء سواء.. فتصحيح النظرة يعْصِمُ المجتهِدَ المطلوبَ من مزالق التعصُّب والتطاحن والتقوْقع داخل الحِزْبِيّة العرقية، أو الحزبيّة المذهبيّة.
-2 تجنيد كل الطاقات، وشَحْذ كل الفعاليات، وتوجيهها في المسار البَنَّاءِ الصحيح.
-3 معرفة الأولويات في التخطيط والتأسيس، فنظرة بسيطة وسريعة إلى إعلامنا المسموع المرئي تُعطيك مقدار الفراغ الذي يدور فيه، ومقدار انعدام المسؤولية فيه، بَلْ ومقدار الاستهزاء بالعقول والتطلعات، كما يعطيك مقدار الجمود، ومقدار التبعية والخنوع غير المبرّر، فالجهاز الإعلامي بالصورة التي هو عليها عُنْوان الفشل والاحباط للمنظومة التي عُلِّقَتْ عليها آمال التغيير، وعنوان العجز الشامل الذي يفرض التقاعد السليم قبل حدوث البركان المدمِّر.
ونظرة إلى البطالة، والجهل الأبجدي والفكري، والتشجيع المنهجيّ للغرق في بحور المفاسد والفواحش، تعطيك الفراغ الأبجديّ في المعالجة العملية للمشاكل المستعصية منذ زمان، فهل طُرِح مشروع تعليمي يرفع من قَدْر إنساننا مادَّةً وكيانا؟؟ وهل طُرح مشروع اجتماعي يستهدف التقليل من مؤسساتِ التمظهُرِ بالبذخ والترف الخاويَيْن لإنقاذ أغلبِيَّة الشعب من التهميش، فهل نحن بحاجة ماسة إلى البرلمانيين والمستشارين معا؟؟ وهل نحن بحاجة إلى عشرات الوزارات، وعشرات الكتاب للدّولة؟ وهل نحن بحاجة إلى مدربين رياضيين أجانب بعشرات الملايين؟؟ وهل نحن بحاجة إلى المظاهر الاحتفالية التي تُنفَق فيها الملايين بدون مردودية على أي صعيد؟؟ وهل نحن بحاجة إلى إنشاء الصراعات وتغذيتها لإهدار الجهد والمال بدون طائل؟؟
إنّ عمَى الاجتهاد من أعظم المصائب التي أفْرَزَتْها مَحَاضِن الغَزْو المُصَدَّر إلينا في شكل أنماط بشرية لا صلة لها باهتمامات الوطن ومشاكله، ولا ارتباط لها بمقوِّمات الوطن ولُباب كيانه، ولا خلاص من هذه المصائب إلا باختيار القادرين على الاجتهاد البعيد عن التعصب والغرض والهوى.