جوانب هامة تمتاز بها هذه الدعوة:
وإذا تتبعنا سيرة الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم رأينا جوانب كثيرة تمتاز بها سيرتهم، وتقوم عليها دعوتهم، عن تلك التي تميز بها القادة والمصلحون من عامة البشر(ü) :
التجرد من المنافع المادية والثمرات العاجلة : امتازت دعوة الأنبياء وجهودهم بتجردها من التفكير في المنافع المادية والثمرات العاجلة فكانوا لا يبتغون بدعوتهم وجهادهم إلا وجه الله، وامتثال أوامره وتأدية رسالته، تجردت عقولهم وأفكارهم من العمل للدنيا ونيل الجاه وكسب القوة لأسرتهم أو أتباعهم والحصول على الحكومة حتى لم يخطر ذلك ببال أصحابهم وأتباعهم، وكانت هذه الحكومة التي قامت لهم في وقتها والقوة التي حصلت لهم في دورها لم تكن إلا جائزة من الله ووسيلة للوصول إلى أهداف الدين وتنفيذ أحكامه وتغيير المجتمع وتوجيه الحياة كما قال الله تعالى : ((الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر< ولم تكن هذه الحكومة قط غاية من أهدافهم أو حديثاً من أحاديثهم أو حلماً من أحلامهم، إنما كانت نتيجة طبيعية للدعوة والجهاد، كالثمرة التي هي نتيجة طبيعية لنمو الشجرة وقوة إثمارها.
وقد قال كاتب هذه السطور في رسالته “بين الهداية والجباية” ما يحسن نقله هنا :
((بعث محمد صلى الله عليه وسلم فدعا الناس إلى الاسلام فالتف حوله “فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلهاً لقد قلنا إذاً شططاً، هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة، لولا يأتون عليهم بسلطان بين، فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً<.. وكان هؤلاء الفتيان هدف كل قسوة وظلم واضطهاد وبلاء وعذاب، وقد قيل لهم من قبل “أحسب الناس أن يتركوا أن يقولواآمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين< فصمدوا لكل ما وقع لهم وثبتوا كالجبال، وقالوا: ((هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله<.
حتى أذن الله في الهجرة ولم تزل الدعوة تشق طريقها وتؤتي أكلها حتى قضى الله أن يحكم رجالها في العالم.. ويقيموا القسط ويخرجوا الناس من الظلمات إلى النور ومن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، فقد عرف أنهم إذا تولوا وسادوا ((أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر<.
وهكذا جاءت الدعوة بالحكومة، كما تأتي الأمطار بالخصب والزرع، وكما تأتي الأشجار بالفاكهة والثمر، فلم تكن هذه الحكومة إلا ثمرة من ثمرات هذه الدعوة الاسلامية، ولم تكن هذه العزة والقوة إلا نتيجة ذلك العذاب الذي تحملوه من قريش وغيرهم، وذلك الهوان الذي لقوه في مكة وغيرها.
وفرق كبير بين الغاية التي تقصد والنتيجة التي تظهر، ويظهر هذا الفرق في نفسية العامل والساعي، والذي يقصد الحكومة يتوانى ويقعد إذا لم ينلها أو انقطع أمله فيها، ويشتغل بها عن الدعوة ويطغى إذا نالها، وخطر على كل جماعة تتكون عقليتها بحب الحكومة والسعي لها أن تقعد عن الجهاد في سبيل الدعوة أو تنحرف وتزيغ في قصدها، لأن أساليب الوصول إلى الحكومة تخالف أساليب الدعوة.
فيجب علينا أن ننقي عقولنا ونفوسنا ونجردها للدعوة وللدعوة فحسب، والخدمة والتضحية والايثار وإخراج الناس بإذن الله من الظلمات إلى النور ومن الجاهلية إلى الاسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان المحرفة والنظم الجائرة والمذاهب الغاشمة إلى عدل الاسلام وظله، ولا يكون دافعنا إلى العمل والجهاد إلا امتثال أمر الله والفوز في الآخرة، وما أعد الله لعباده من الأجر والثواب، ثم الشفقة على الخلق والرحمة بالانسانية المعذبة والحرص على نجاة الانسان، فإذا كان ذلك لا يمكن في مرحلة من مراحل الدعوة أو في فترة من فترات التاريخ -بعد تغلغل مبادئ الدعوة في نفوس الدعاة ورسوخ العقيدة فيهم- إلا بالحكومة سعينا لها لمصلحة الدعوة والدين كما نسعى إلى الماء للوضوء ونجتهد لهذا السبب بنفس العقلية وبنفس السيرة وبنفس العفة والنزاهة والصدق والأمانة والخشوع والتجرد الذي نجتهد معه لواجبات الدين وأركانه والعبادات الأخرى، فلا فرق للمؤمن بين الحكومة وبين العبادات إذا حصل الاخلاص وصحت النية، فكل في رضا الله، وكل في سبيل الله، وكل عبادة يتقرب بها العبد إلى الله.
المثابرة على الدعوة والصبر عليها: ومما امتازت به حياة الأنبياء وسيرتهم النبوية المثابرة على الدعوة والصبر عليها، فلا يتخطون هذه المرحلة التي هي الأساس بسرعة وعجلة، ولا يطفرون منها طفراً إلى مرحلة أخرى بل يقضون فيها سنين طوالا ولا يشتغلون بغيرها ولا يطمئنون إلى أن المجتمع قد عقل دعوتهم واستساغها، ولا إلى الدعاة أنهم قد بلغوا رسالتهم وأدوا مهمتهم، ولا إلى النفوس أنها قبلت هذه الدعوة وهضمتها هضماً صحيحاً وأحلتها منها محلا لائقاً وأنست النفوس باتباع الأحكام وانقاد لها جماحها ولانت لها قناتها، لا يطمئنون إلى كل هذا حتى يتحققوه ويختبروه مرة بعد مرة، فلا يخدعون أنفسهم ولا تغرهم بهرجة الكلام فتكون نتيجة هذه التربية المتينة والدعوة الطويلة أنها تؤتي أكلها ناضجة شهية ولا تخدج الدعوة نتاجها فإذا قامت الحكومة قامت على أساس متين من الأخلاق وعلى أكتاف رجال أقوياء، أقوياء في عقيدتهم، أقوياء في سيرتهم، أقوياء في خلقهم، أقوياء في عبادتهم، أقوياء في سياستهم، لا يندفعون مع التيار، ولا تجرف بهم المدنية ولا يلعب بعقولهم الغنى بعد الفقر، واليسر بعد العسر، والقوة بعد الضعف، ولا تميل بهم المحسوبيات والأرحام والصداقات، ولا تستهويهم المطامع والمنافع.
هذا كان شأن الخلافة الراشدة وهذه كانت سيرة الخلفاء الراشدين، وهنا أنقل مرة ثانية ما قلته في رسالتي “بين الجباية والهداية” :
“تأسست دولة الاسلام وفتحت فارس وبلاد الروم والشام ونقلت إلى عاصمة الاسلام -المدينة المنورة- كنوز كسرى وقيصر وانصبت عليها خيرات المملكتين العظيمتين وانهال على رجالها من أموال هاتين الدولتين وطرفها وزخارفها، ما لم يدر قط بخلدهم، وقد انقضى على إسلامهم ربع قرن وهم في شدة وجهد من العيش وفي خشونة المطعم وخشونة الملبس، لا يجدون من الطعام إلا ما يقيم صلبهم ولا من اللباس إلا ما يقيهم من البرد والحر، فإذا بهم اليوم يتحكمون في أموال الأباطرة والأكاسرة، ولو أراد الواحد منهم أن يلبس تاج كسرى وينام على بساط قيصر لفعل، لقد كانت هذه والله محنة عظيمة تزول فيها الجبال الراسيات وتطير لها القلوب من جوانحها وتعمى العيون، إنهم ما وقفوا بين الفقر والغنى فحسب بل إنهم خيروا بين أن يتنازلوا عن دعوتهم وأمانتهم ومبادئهم وينفضوا منها يدهم فلا يطمعوا فيها أبداً وبين أن يحافظوا على روح هذه الدعوة النبوية وعلى سيرة رجالها اللائقة بخلفاء الأنبياء والمرسلين وحملة الدعوة والمؤمنين المخلصين.
كان لهم أن يؤسسوا ملكاً عربياً عظيماً على أنقاض الدولة الرومية والفارسية وينعموا كما نعم ملوكها وأمراؤها من قبل، فقد ورثوا الامبراطوريتين الفارسية والرومية وجمعوا بين موارد دولتين، فإذا كان كسرى يترفه بموارد فارس فقط، وإذا كان هرقل يبذخ بموارد الروم فقط، فهذا عمر بن الخطاب يمكنه أن يترف بموارد الامبراطوريتين ويبذخ بذخاً لم يبذخه أحدهما.
كان له ولأصحابه كل ذلك بكل سهولة، ولكنهم سمعوا القرآن يقول : ((تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً والعاقبة للمتقين<، وكأنهم يسمعون نبيهم صلى الله عليه وسلم يقول قبل وفاته : ((لا الفقر أخشى عليكم ولكن أخاف أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم، فهتفوا عن آخرهم قائلين : ((اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة<.
وهكذا حافظوا على روح الدعوة الاسلامية وسيرة الأنبياء والمرسلين وعاشوا في الحكومة كرجال الدعوة، وفي الدنيا كرجال الآخرة، وملكوا أنفسهم في هذا التيار الجارف الذي مال قبلهم بالمدنيات والحكومات والشعوب والأمم ومال بالمبادئ والأخلاق والعلوم والحكم.
مازال الناس يعدون اقتحام المسلمين دجلة بخيلهم وجندهم وتحت قيادة سعد بن أبي وقاص ووصولهم إلى الشط الثاني -من غير أن يصابوا في نفس أو مال أو متاع- حادثاً غريباً من أغرب ما وقع في التاريخ، إن الحادث لغريب ولكن أشد منه غرابة وأدعى للعجب أن المسلمين في عهد الخلافة الراشدة والفتوح الاسلامية الأولى خاضوا في بحر مدنية الروم وفارس وهو هائج مائج، وعبروه ولم يفقدوا
شيئاً من أخلاقهم ومبادئهم وعاداتهم، ووصلوا إلى الشط الثاني ولم تبتل ثيابهم، ولم يزل الخلفاء الراشدون وأمراء الدولة الإسلامية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم محتفظين بروحهم ونفسيتهم وزهدهم وبساطتهم في المعيشة وتخشنهم في أوج الفتوح الاسلامية.
التفرغ للدعوة : ومن مزايا الأنبياء والدعاة إلى الله التجرد للدعوة والتفرغ لها بالقلب والقالب والنفس والنفيس والوقت والقوة، فمن شأنهم أنهم يركزون جهودهم ومواهبهم ويوفرون أوقاتهم وقواهم لهذه الدعوة ونشرها والجهاد في سبيلها ويعطونها كُلَّهم ولا يضنون عليها بشيء مما عندهم ولا يحتفظون بشيء ولا يؤثرون عليهم شيئاً، لا وطناً ولا أهلا ولا عشيرة ولا هوى، ولا مالا، ثم تثمر جهودهم في الدنيا وقد تثمر بعد حياتهم، فهذا هو النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب بقوله تعالى : ((وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون< وإذا كان هذا شأن الدعوة بعدما أعطاها الأنبياء كل ما عندهم فكيف بها إذا أعطيناها بعض ما عندنا، وكانت الدعوة تملك عليهم عقولهم ومشاعرهم وتملك عليهم تفكيرهم وصحتهم فما زال القرآن يسلي النبي صلى الله عليه وسلم ويقول له : ((فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفاً<.
دعوة تسري في الروح وتتجلى في الأخلاق والسلوك : ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على طريقهم في الدعوة إلى الله، أن هذه الدعوة إلى الله وإلى الدار الآخرة تسري في حياتهم كما يسري الماء في عروق الشجر والكهرباء في الأسلاك وتظهر في أخلاقهم وعبادتهم فترق قلوبهم وتخشع نفوسهم وتزداد رغبتهم في العبادة ويشتد اهتمامهم بها وحرصهم عليها وإيفاؤهم لحقوقها، فعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه فقيل له قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال : “أفلا أكون عبداً شكوراً”، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة، والآية هي : ((إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم<.
وانتقلت هذه اللذة بالعبادة والاهتمام بها إلى الصحابة رضي الله عنهم في أشد الأوقات شغلا وأقلقها خاطراً، حتى كان أعداؤهم يعرفون ذلك عنهم وقد وصفهم رجل من الروم بقوله : “هم فرسان بالنهار رهبان بالليل”، ويقول قائل : “لو حدثت جليسك حديثاً ما فهمه عنك لما علا من أصواتهم بالقرآن والذكر”.
إيثار جانب العزيمة على جانب الرخصة : ومن مزايا الأنبياء عليهم السلام ومن كان على قدمهم أنهم يأخذون بالعزيمة في الدين ولا يأخذون بالرخصة -إلا بياناً للحكم الشرعي وشكراً لنعمة الله ورفعاً للحرج عن الأمة ولا يعفون أنفسهم ولا يتساهلون في العبادات لأن اتباع الناس للدين وعملهم به بمقدار تصلب هؤلاء السادة في الدين وتمسكهم به، فإذا اهتم هؤلاء بالنوافل اهتم الناس بالفرائض وإذا اكتفى القادة بالفرائض استرسل الناس إلى تركها والاستهانة بحقها، لذلك كان الصحابة رضي الله عنهم وقادة هذه الأمة يشمرون عن ساق الجد في العبادات والمحافظة على الجماعات والعمل بالسنن الدقيقة والاهتمام بالآداب ولا يكتفون بالأدنى ولا يقفون عند الفريضة، وبذلك استطاعوا أن يورثوا الدين موفوراً غير منقوص، وهو أمانة عند هذا الجيل فلينظر كيف يورثه الأجيال الآتية.
تربية النفوس والأشخاص : وما يمتاز به الأنبياء والمرسلون عن الحكماء والمؤلفين والعلماء المحققين، أنهم يعنون بتربية النفوس والأشخاص الذين يضطلعون بأعباء الدعوة بعدهم وينفذون تعاليمهم ورسالاتهم علماً وعملا، ومعلوم أن دعوتهم العظمى لا تقوم إلا على أكتاف الأصحاب والأقوياء الحنفاء المخلصين في إيمانهم والمخلصين في تفكيرهم والمخلصين في نياتهم، الذين قد تنقت رؤوسهم وصدورهم من ألواث الجاهلية والذين هضموا الاسلام هضماً صحيحاً وانقطعت كل صلة في حياتهم عن الجاهلية بأوسع معانيها وخلقوا في الاسلام خلقاً جديداً.
ونرى ذلك واضحاً في حياة سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام، فلما كان بنو إسرائيل قد نشأوا في حياة العبودية والذل والاضطهاد والسخرة الظالمة وماتت رجولتهم وإباؤهم ومردوا على الخنوع والاستكانة والخضوع للقوي الغالب وعلى الجبن والحرص الشديد على الحياة والخوف الشديد من الموت وأسبابه حتى قال لهم نبيهم : ((يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين، قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون<، ولم يشجعهم على التقدم والقتال قول موسى عليه السلام : ((كتب الله لكم< مع أنه كان ضماناً لانتصارهم، وأخيراً قالوا بكل صراحة ووقاحة : ((يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون< فظهر أن نشأتهم الأولى تأبى عليهم أن يخوضوا معركة ويدخلوا في امتحان ويعرضوا أنفسهم للخطر، وقطع موسى من هذا الجيل الفاسد الرجاء وقال : ((رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين<.
هنالك أمره الله بالاعتزال مع قومه (لا عن قومه) في بيداء سيناء حيث الشظف وخشونة الحياة، وهنالك ينقرض هذا الجيل الفاسد الذي شب على الجبن والضعف وشاب عليه، وينشأ الأولاد والشباب الإسرائيلي -الذين لا يزالون في مقتبل العمر- على التخشن والجلادة وتحمل شدائد الحياة ومكارهها، وينشأ جيل جديد يولد في هذه العزلة والبداوة على معاني الرجولة والفروسية، وهكذا تتكون أمة جديدة تقوم بدعوة النبي وتطبق تعاليمه ومبادئه وتجاهد في سبيلها.
وذلك معنى بليغ من معاني الهجرة النبوية فقد استطاع سيد الأنبياء وسيد الدعاة إلى الله عليه الصلاة والسلام بانتقاله مع أصحابه من ضيق مكة إلى سعة المدينة وحربتها، أن يكمل تربية أصحابه وأن ينشئ الجيل الاسلامي الجديد الذي لم يلبث أن اضطلع بأعباء الدعوة المحمدية ومثل الاسلام تمثيلا كاملا.
جيل جديد بالتمام والكمال : كذلك الدعوة الاسلامية تفرض إنشاء جيل جديد للاسلام، جديد في قوة إيمانه، جديد في حماسته وثقته، جديد في أخلاقه، جديد في تفكيره وعقليته، جديد في كفايته العلمية واستعداده العقلي، وإن النجاح في هذا الانتاج البشري مقياس نجاح الدعوة، فكلما كان النجاح كثيراً في إيجاد هذا الجيل وتكوين هذا الشباب كان النجاح باهراً في الدعوة والرسالة، ومعلوم أن إنشاء الجيل المعاصر الذي لم يفقد صلاحيته ونموه ليس بالأمر الهين، إنها هي مهمة لتنوء بالعصبة أولي القوة، إنها تحتاج إلى تكريس الجهود وتركيز القوى على هذه الغاية والتفكير العميق الواسع والتعاون الشامل والتصميم الحكيم، إنها تتطلب أساليب التربية الحكيمة العميقة الأثر، وجهوداً عملية في ميدان الدعوة والاصلاح، إنها تتطلب حركة التأليف والإنتاج الواسعة ومقداراً كبيراً من الابتكار، إنها تتطلب وضع منهاج جديد على أساس جديد للدراسات، ومثالا جديداً من المدارس والكليات والجامعات ومؤلفات ومنشورات جديدة في شرح الدين الاسلامي وعرض الفكرة الاسلامية وتأليفات جديدة في السيرة النبوية، وتدوين جديد للتاريخ الاسلامي، وسبك جديد للعلوم الاسلامية، وتفسير جديد للعلوم الكونية، وتلقيح علمي جديد للصحافة والأدب والروايات والشعر.
ركام بشرى وخامات مهملة نبني بها بيتا جديداً : إننا أمام أنقاض عقلية وركام بشري وخامات مهملة نبني بها بيتاً جديداً، ونصنع بها سفينة جديدة تمخر عباب الحوادث والموانع، وعلينا أن نبدأ في عمل جديد وجهاد جديد يستغرق وقتاً طويلا ويستنفد جهوداً عظيمة، وذلك إن كان عملا شاقاً طويلا متعباً مملا، ولكن لابد من إنجاز هذا العمل ومن مواجهة هذه الحقيقة والتغلب على العقبات التي تعترض سبيلها.
هذه مزايا الدعوة النبوية ومزايا الدعوة التي تكون على قدم النبوة وواجباتها، وبذلك تمتاز عن الحركات القومية والاصلاحات الاجتماعية والثورات السياسية والاقتصادية، ومن هذه المنابع نستمد القوة والروح ونستحق من الله النصر ونجلب الرحمة، فلنحافظ عليها محافظتنا على الشعائر والعقيدة لنحرص عليها حرصنا على الحياة والقوة.
المرحوم أبو الحسن علي الحسين الندوي
———————–
(ü) نشرنا في العدد السابق الجانب الأول وهو: الالتجاء الى الله.