منذ تسنم المدنية الغربية بشقيها الأوروبي والأمريكي لطليعة الركب الحضاري العالمي وعقلية الآلة والانتاج والاستهلاك والتقنيات تتطوّر وتهيمن على حساب كل ماهو بيئة طبيعية، أي كلّ ما هو شأن طبيعي وبالتالي إنساني إذ أن الانسان قد كرّمه الخالق بأن سخّر له ما في الكون وما في الأرض تحديدا. قال تعالى : ((هو الذي سخّر لكم ما في الأرض جميعا))، والتحدّي الكبير الذي جعلت المدنية الانسان المعاصر أمامه -بما فيه الانسان الغربي- هو كيفية مواجهة هذا التطوّر والهيمنة، ومن ثم السيطرة على هذه المدنية بحيث يصبح الانسان هو الموجّه لها، لا هي الموجّهة له.
لقد أفل نجم الحضارة الاسلامية منذ أزيد من خمسة قرون، وكان قد أثبتت جدارتها في جعل ثقافة الأفكار تهيمن على ثقافة الأشياء أو بشكل أوضح جعلت الانسان والعقل يسيطران على الآلة والهوى. وكانت هذه الثقافة مرتكزة على الوحي الذي يربّي الانسان على العقيدة أوّلا ثم يضبطه بالشريعة ثانيا. ثم انبثقت المدنية الغربية مستفيدة من التركة الحضارية الاسلامية والانسانية منقوصة من عقيدة الوحي، فانهزم الانسان أمام ما أبدعت وما كسبت يداه. وفي الغرب نفسه ولت أفكار ديكارت ورومانسية هوجو وإنسانية تولستوي وعالمية شكسبير وفلسفة برنارشو.. وأفكار غيرهم من رجال الفكر والثقافة والفنّ في أوروبا لتصير شيئا متحفيا لحساب فكر وثقافة وفنون لا شأن لها إلا تبرير الواقع المأساوي لهيمنة الآلة والمادّة وتكريسه، وكانت البداية مع فرويد ودوركايم وداروين وهيجل ونيتشه، ومع اللاأدرية والوجودية والماركسية والنازية ثم النظام العالمي الجديد. ومع رواد السينما والطرب ونجوم الدعاية والإغراء والإشهار في مختلف أمصار الغرب وما يلحق به في العالم الثالث، وفي طليعتها هوليود ونيويورك ولندن وباريس وروما وتل أبيب وساوباولو، وريوديجانيرو وبانكوك وبيروت والقاهرة. لقد استطاعت هذه المادّية المجنونة أن تجد أسواقها ومراتعها في مواقع التخلف حيث الأمية والجهل والفقر والهزيمة الحضارية وضعف المناعة الثقافية وفقدان الهوية، وفي مواقع تواجدها حيث غياب الدّين والقيم وسيطرة الأهواء والنزوات وتحكم المادّة. وقد جعلت هذه المدنية المادّية من الوسائل أهدافا حيث إنّه في الماضي لم تكن أساليب العيش من أكل وشرب وملبس ومسكن وركوب وأثاث، وكذلك أساليب اللهو والترفيه وشؤون الرياضة والفنّ. هذه الأمور لم تكن مقاصد وأهدافا انتهائية للانسان على الأرض، وإنّما هي وسائل يوفّرها الانسان إن استطاع ويستعين بها ليتفرّغ لشؤون أخرى في حياته كالقراءة والكتابة والإبداع والعلاقات الاجتماعية مع الوالدين والزوج والأبناء وذوي الرحم والأصدقاء والجيران وبالنّسبة للمسلمين : تأدية الفرائض وتحقيق العبادة والدّين من أركان الاسلام وأركان الايمان والذكر والدّعاء والدّعوة والتبليغ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وتحقيق جميع شؤون الدّين حتى يشمل كل أنماط الحياة مع الاستزادة من العلم والمعرفة وتحويل ذلك باستمرار إلى عمل صالح.
وممّا يؤسف له أن النخبة المثقّفة التي كانت تمثل ضمير الأمّة في الغرب من مفكرين وفلاسفة ورجال الدّين وصحافيين وفنّانين كما كان يمثلها تولستوي وبرنارشو وسلفادور دالي وبابلو نيرودا؛ هذه النخبة لم تعد بذلك الكيف والتأثير الايجابي كما ذي قبل. بل إن النخب الثقافية والفكرية صارت مماشية للحال الذي عليه مجتمعاتها في أغلب الأحوال. وقد شجّع على ذلك الجوائز والمهرجانات وأسواق الدّعاية والإعلام ومجالات السياسة والاقتصاد.
لقد تحدّث المفكر الاسلامي مالك بن نبي كثيرا عن هذا الأمر حينما قسّم عوالم النّاس إلى أقسام ثلاثة : عالم الأشياء ويضمّ بسطاء النّاس، وعالم الأشخاص ويضمّ وسطاءهم، وعالم الأفكار ويضمّ نخبة النّاس. أمّا الكاتب الاسلامي هشام الطالب صاحب “دليل التدريب القيادي” فقد صنّف النّاس إلى أصناف أربعة لم تكن بعيدة عن تصنيف مالك بن نبي، فقال : ((العقول الكبيرة تناقش الأفكار، والعقول المتوسطة تناقش الأحداث، والعقول الصغيرة تناقش الأشخاص والمادّيات، والعقول الصغيرة جدّا تناقش شخصياتها))، إن الخالق سبحانه وتعالى أدرى بخلقه حينما خلقهم مجبولين على اتباع الأهواء وتصريفها في تملك الأشياء ليختبرهم في ذلك، إذ أنّه سبحانه وتعالى وقد حرّم عليهم بعض المواقع والمواقف، وأجاز لهم أخرى، فإنه قد ندبهم أو ألزمهم وارتضى لهم ما هو أسمى. فقال سبحانه وتعالى : ((زيّن للناس حبّ الشهوات من النّساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا،والله عنده حسن المئاب)). وكان أوّل ما تبع هذا الكلام قوله عز وجل : ((قل أؤنبّئكم بخير من ذلكم))، فكل تلك الشهوات وإن كانت مقيّدة في أطر محدّدة من الحلال، فإنّ الإنسان مع ذلك مكلّف ومندوب إلى أسمى من ذلك وأبعد ولأجل ذلك خلق.
إن المدنية في تطوّرها تحرك جانب القوّة في الإنسان، رافعتها الغريزة والعاطفة. وإنّ الثقافة في تجليّها تحرّك جانب البصيرة في الإنسان دافعتها الفطرة والعقل، وإنّ هدف الحضارة المتقدّمة أن تجمع بين هذه وتلك في توافق إيجابي لا يقبل النّشاز، وهي عندئذ حضارة ناجحة. وإلاّ فإنّ المدنية بدون توجيهات الثقافة عمياء. والثقافة بدون أساليب المدنية عرجاء. والحضارة بدون هذه أو تلك منقوصة، أو بدون توافق إيجابي بينهما مهزومة إلى زوال.
ذ. عبد الوهاب الفُغري