لقد أصبح واقع الثقافة في العالم بأسره ينطبع بتحوّل بيّن من ميدان القراءة والكتابة والكتاب والمجلة إلى ميدان الإعلام بالبثّ والاتّصال والصورة. وفي الواقع الإعلامي غدا البث المرئي مهيمنا بشكل كاسح. ويبقى الكتاب والمجلّة والمقال وسائل لها استمرارها فعلا وتأثيرا لكن على مستوى نخب من المجتمع تتمثل في المثقفين والأكاديميين ورجال الفكر والأدب والعلوم والبحوث وبعض المتمدرسين. لكن هذه الوسائل تضعف بالتأثير إلى درجة الانعدام في أوساط الفئات العريضة من المجتمع التي تخيّم عليها الأمية والفقر والجهل. ويسود هذا الحال في العالم الثالث، فتأخذ محلّها وسائل الإعلام التي تعتمد على الصورة لما لها من تأثير سريع وعميق على هذه الفئات.
وما إن بدأ البثّ الإعلامي العالمي يبث برامجه عبر القنوات والأقمارالاصطناعية في تنافس بين مختلف دول العالم حتى بدأ يستأثر بجمهور واسع من النّاس. وإن كان للفضائيات الأجنبية (الأوربية منها على الخصوص) تأثير متميّز بحكم تطوّر الوسائل والإمكانات فإن بعضا منها كانت متميّزة على الأخرى. كما أن للفضائيات العربية استئثار بالمشاهد العربي نظرا للغة البث وتقارب الهموم والاهتمامات. والعالم العربي وعموم العالم الاسلامي جزء من العالم الثالث. وأوّل مايطبع العالم العربي هو شيوع الإستبداد السياسي الذي تغيب معه الشورى كما تغيب فيه الديمقراطية، فتستبدّ الدولة بكل شيء. ومن جملة ذلك الإعلام، فلا يبقى للفئات المستقلة من الشعب إلا بعض الهوامش والمواقع الضيّقة التي إن هي استطاعت التحرّك فيها. فيكون عندئذ الإعلام العربيّ المبثوث -إذاعيا كان أو مرئيا- هو الإعلام الرسمي الذي توجهه الدولة. وهو إعلام تميّزه السمات التالية :
- استعراضي في مختلف مجالاته:
سواء السياسية والثقافية والفنية والاقتصادية.. السياسة فيه توجّه الأشكال الأخرى. هذه الاستعراضية تطغى على جلّ برامجه لاسيما نشرات الأخبار فتستهلك جهدا ووقتا غير يسير من الحصص المقدّمة ومن المتلقّي.
- قطري في مواضيعه واهتماماته :
فهو لا يهتم بالهموم العامة للأمة كهمّ الوحدة وتطلعات الشعوب العربية لها وضرورتها الحضارية. ويطرح قضايا الأقطار الشقيقة الأخرى كشؤون خاصة بها. فالقضية الفلسطينية خاصة بالشعب الفلسطيني، وحصار العراق أمر يتعلق بالقطر العراقي، ومقاطعة ليبيا شأن يتعلق بما دون الحدود الليبية.. وهكذا..
- مستلب مباشر :
فالمواد التي يقدّمها هذا الاعلام -فضلا عن الانتاج المحلّي الرسمي- خارجية في معظمها منحولة ومستوردة بسبب الانبهار الحضاري بالآخر الذي هو الغرب. أو الفراغ والعجز في الإنتاج، أو المادة المستوردة التي تكون رخيصة أحيانا. وتتكوّن هذه الموادّ من الأفلام الأمريكية بنوعيها الأنجلوسكسوني واللاتيني (رعاة البقر، أفلام السطو والإجرام، وحياة الطبقات الأرستقراطية، والصراع الاجتماعي في الغرب والحروب والخيال العلمي، ومسلسلات الأسر المنحلة والانحراف الاجتماعي والفضائح..) وتقدّم أحيانا أفلام فرنسية أو انجليزية أو ألمانية، لكنّها تتبع النمط الأمريكي أو تقدّم مظاهر الحياة الخاصة بمجتمعات هذه الدول. أما مواد الأطفال فتأخذ فيها الرسوم المتحركة قسطا كبيرا لكنّها من إنتاج غربي مقدّمة بلغات الغرب أو مترجمة إلى العربية وقد يكون هذا أنكى وأنكد، لأن هذه الرسوم -وهي في الأصل نتاج غربيّ لأبناء الغرب على الخصوص- مرتبطة في مواضيعها وإخراجها وأشكالها وأهدافها بالتصوّر الغربي للحياة والسلوك والأخلاق وللدنيا والآخرة وللخير والشرّ وللحسن والقبيح، بعيدة عن طبيعة العرب، مسلمين كانوا أو مسيحيّين، وعن طبيعة المسلمين، عربا كانوا أو أعاجم. وهناك مواد إشهارية تأخذ وقتا غير يسير من أوقات البثّ طابعها مادّي ويخلف آثارا سيّئة على المشاهدين وعلى الصغار بالخصوص باعتمادها أساليب الاستلاب والإثارة واستخدام المرأة والكذب والخداع. وبرامج أخرى وثائقية مستوردة هي الأخرى، وإن كانت محلية فهي هزيلة أو مطبوعة بطابع الاستلاب والتبعية والتقليد.
- مستلب غير مباشر :
هذا النوع الإعلامي تقدّم موادّه باللغة العربية أو اللهجات المحلّية ويعكس ثقافة الواقع العربي في أشكالها المريضة والمنحرفة والمحاكية لحضارة الغالب. فمن ذلك المسلسلات المصرية التي تتمحور دوما حول حكايات عائلات مترفة على النمط الغربي وعلاقات غير شرعية بين الشباب في أشكال يسومها التبرّج المتعدد الصور خلقيا وفكريا وثقافيا. كما تحاكي بعض هذه المسلسلات السينما الهندية في أحوال البؤس والصراع الاجتماعي. وكذلك حال المسرح الذي يراوح مكانه بين التهريج أو المنتحل في منهاجه عن المسرح الغربي. أمّا السينما فهي أبعد استلابا ومحاكاة وتفسّخا من التلفزة والمسرح، وتتضمّن الفنون المقدّمة من مصر ولبنان حضورا مهمّا للفئات المسيحية في مختلف المواقع. أما الفنون السورية فهي مطبوعة بجاهلية ضاربة في القدم تركّز على تاريخ وأمجاد حضارات أوغاريت والفينيقيين والأنباط الذين كانوا بالشام، لأجل ترسيخ النزعة الوطنية القطرية على غرار الفرعونية عند المصريين، وفي شمال أفريقيا تحاول الفرنكفونية أن تبقى مهيمنة كثقافة على الإعلام والفنون علما أنّها صبغة وثقافة لا تعدّ اللغة الفرنسية سوى جزء منها. وفي ليبيا والعراق تهيمن سلطة الدولة على الإعلام وتوجيه الثقافة بشكل صريح بخلفية القومية القطرية أحيانا والعربية أحيانا أخرى. وفي دول الخليج حيث إيرادات النفط هي التي تحرّك الإعلام تطغى مشاهد الإعلان والإشهار والدعاية للأشياء والأنماط المستوردة منالغرب والترويج للاستهلاك.
خاتمة :
في غمرة هذا الانزال الإعلامي العارم المؤثر على الإعلاميين وعلى المشاهد العربي لا نتصوّر دخول الصراع على الأحوال التي عليها الواقع واعتماد التقليد والمحاكاة ونفس الأساليب، فإذا كانت القنوات المسيطرة تعتمد المال والمرأة والدعاية والإشهار والإعلان والإثارة والسيطرة على الغرائز عند المشاهد… ونحو هذه الأمور فسلوك هذا السبيل اختيار فاسد. والتعاون مع قنوات من هذا النّوع غير نافع ولن يجعل الإعلام العربي يتميّز في شيء. ولأجل النهوض بالشأن الإعلامي ودخول المنافسة بشكل حضاريّ يحافظ على الهوية الحقيقية والشريفة للعرب ويفرض احترامهم على الآخرين. فإن كان لابدّ من التقليد فلا بأس بتقليد الإيجابي والقنوات الناجحة ذات المصداقية والفعالية الإيجابية. ونذكر من ذلك قناة “الجزيرة” التي أثبتت مصداقيتها في الساحة العربية بفضل تميّزها عن العربياتالأخرى ذات الطابع الاستعراضي والغوغائي، وبما تقدّمه من برامج جادّة حول هموم العرب والوحدة العربية والهوية العربية وقضايا العرب الداخلية وفي الخارج ومعاناتهم وتطلعاتهم… كما أن في بعض القنوات الاسلامية ما يفيد العرب كمسلمين وأهمّها قناة “سحر” التي تبثّ إحدى حصصها باللغة العربية وتهتم بالتراث الإسلامي.. وفي بعض القنوات الأجنبية منافع وإبداعات يستفاد منها مثل بعض ما تقدمه القناة الخامسة “5ème” ومعها “ARTE” الفرنسية الألمانية المشتركة و”تلفزة 5″ “TV5″ وأخريات.
فكمغاربة وكعرب بشكل عام وكمسلمين بشكل أعم ينبغي في تقديم مواد الإعلام والثقافة أن نركّز على هويّتنا الحضارية والتعريف بتاريخنا وتراثنا وثقافتنا وكفاءاتنا لجمهورنا أوّلا وللآخرين ثانيا. وأن نعتمد على إبداعاتنا الذاتية واقتباساتنا النافعة ولو بالقليل والتؤدة. فإن القليل النافع المستمر خير من الكثير الضارّ المنقطع لا محالة.