نص المحاضرة التي ألقاها الدكتور الشاهد البوشيخي ببلدية ازواغة-فاس، وقد تطرق في الجزء الأول إلى إعطاء نظرة عن مفهوم الحياة، وعن الضعف الداخلي الذي بسببه فساد التصور لمفاهيم ألفاظ كتاب الله عز وجل، وعلى رأسها الحياة التي لها تصور كفري وتصور إيماني.
8- الحياة الأخروية هي الحياة :
هذه الحياة الدنيوية لها خصوصية وهناك الحياة الأخرى التي هي الحياة، ولذلك قال الله عز وجل ((وإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)) وللأسف لا يعلمون “وإنّ” التوكيد “بإن” والجملة الإسمية “الدَّار الآخِرة” والتوكيد باللام”لهي” والتوكيد بالضمير”هي” أيضا ثم بزيادة الألف والنون في الحياة للمبالغة، “الحيوان” كل هذا إشارة إلى أنها هي الحياة التي تستحق أن تسمَّى الحياة، ((وإنَّ الدَّارَ الآخِرةِ لَهِيَ الحيَوَان)) وفعلا يوم القيامة سننسى هذه الحياة الدنيوية نهائيا لن تبقى حاضرة في أذهاننا ((كَلاَّ إذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّا دَكًّا وجاء رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتذَكَّرُ الإِنْسَانُ وأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)). ترجع له الذاكرة ليستعيد كل ما مضى، يستطيع أن يتذكر كل شيء يتذكر ما كان في الدنيا أي في الحياة الصغرى، ويتذكر ما قبل ذلك، يتذكر العهد ((وإِذْ أخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ)) قبل هذه الحياة الدنيا قبل أن يرسل الله إليه الملك فينفخ فيه الروح إذ هناك قبل هذه الحياة.. موت ((وإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَاتِهِمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا بَلَى)) هناك عهد أُخِذ علينا في مرحلة سابقة للتخلق الدنيوي. أُخِذَ على أرواحنا في مرحلة لا ندريها، ولكنه كان.
9- مراحل الحياة والموت :
ومجموع هاته المراحل يصير أربعة وهو ما تشير إليه الآية ((رَبَّنَا أَمَتَّنَآ اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ))، موت قبل هاته الحياة، وموت بعد هذه الحياة الدنيا، ثم حياةٌ بين الموتين، وحياة لاموت فيها، ولا موت بعده، هي الأخيرة وهي التي تستحق أن تسمى الحياة ((كَلاَّ إذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكّا دَكًّا وجاء رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا، وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتذَكَّرُ الإِنْسَانُ وأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)).
الآن ما عادت منافشة في مسألة الحياة وما عاد لُبْس في أمر الحياة الآخرة أنها هي الحياة فيقول الإنسان النادم بصراحة ناسبا ذلك لنفسه ((يالَيْتنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي)) كأن الحياة الدنيوية لم تكن له حياة، لذلك سوف ندرك أن هذه الحياة الأخروية هي الحياة الحقيقية ولكن الناس نيام، فإذا ماتوا استيقظوا، وعرفوا الحياة الحقيقية.
هاته النظرة، هذا التصور للحياة الحقيقية الكاملة الممتدة التي لا نهاية لها قط، والتي لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى، أي لا موت بعد البعث، وتلك هي الحياة، هذا التصور لتلك الحياة الممتدة، لها هذا البعْدُ السابق للدنيا، والبعْدُ اللاحق للدنيا في صورتين : صورة الحياة البرزخية وصورة الحياة الأُخْرَوِيَّة وهي هي الحياة، وكذلك في هذه الدنيا لها الامتداد الأفقي أيضا الذي يجاوز المحسوس إلى غير المحسوس. هذا التصور إن استقر في القلب وحَصَل به الإيمان، وأركان الإيمان قائمة عى هذا فإنه يُنْتِج حياة فردية، وحياة مجتمعية، وحياةً للأمة في صورة معاكسة تماماً للصورة الأخرى، ومغايرة لها، كل المغايَرة.
10- التصور المعَيَّن يلزم منه سلوك معين :
وعلى نفس القاعدة المقررة أن تصورا معيناً لابد أن يَلْزم منه سلوك مُعَيَّن فتطبيقا لهذه القاعدة تكون تصرفات ابن آدم الخارجية حسب ما هو مستقَر في قلبه من التصورات، ويمكن أن نعكس من أجل الدراسة، فنقول : إننا من التصرفات الخارجية -إن حَلّلناها وعلّلناها بدقة- قد نستطيع استخلاص مدى رسوخ الإيمان، ومدى عمق الإيمان، ومدى انتفاء الإيمان أيضا، فحين نجد في الخارج لَدى المسلمين أخلاق الكفار مثلا : يَصْعُبُ علينا أن نقطع بإيمانهم، لأنه لا يمكن مع وجود الإيمان ألاَّ يكون عمل صالح، لا يمكن (لَيْسَ الإِيمَانُ بِالتَّمَنِّي ولَكِنْ مَا وَقَرَ في القَلْبِ وصَدَّقَهُ العَمَلُ) حين لا يوجد في الخارج العمل الطيب الصالح الذي يصدق دعوى الإيمان تَتَّجِهُ التُّهمة إلى ما في الباطن أي أن الإيمان غير موجود بالمرة أو ضعيف، لا نستطيع التنقيب على القلوب ولكن الظواهر آيات وأمارات وعلامات كما قال صلى الله عليه وسلم (آيَةُ المُنَافِقِ ثَلاَث) آيات وأدلة على مالا يُرَى.
فإذن هناك قيطعة كاملة بين تصورين للحياة: تصور كفرِي قاصر قصير محدود، تنتُج عنه أعمال وأخلاق وتصرفات كذلك ذاتُ بُعدٍ محدود. وتصور واسع عميق بعيد ممتد لانهاية له تنتُج عنه كذلك أخلاق لا نهاية لِسَعتها.
“أنتم تعلمون أن الإسلام رحمة” وأن الذي أنزل عليه الإسلام أيضا صار رحمة((وما أرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمة للعالمين)).
11- الله تعالى مصدر جميع أنواع الحسن في الأسماء والمعاني :
لابد أن نقرر هاهنا حقيقة، قبل المضي في معاني الرحمة، وهي : أن جميع المعاني الحسنة أو الأسماء الحسنى إنما هي في الله ومن الله عزوجل، فلا رحمة في الكون ليس مصدرها الله عز وجل، من جهة أنه الرحمان الرحيم، ولا علم في الكون ليس مصدره الله عز وجل من جهة أنه العليم، ولا قوة في الكون ليس مصدرها اسم الله من جهة أنه القوي العزيز وهكذا. والحياة نفسها، استمدادها أيضا من اسم الله الحي كذلك. فكل ذلك يعني أن جميع المعاني الحسنة أصلها من الله، فالأخلاق التي هي رحمة كما قلت، مصدرها اسم الله الرحمان الرحيم، إذ رحمته وسعت كل شيء وإن كانت لن تُكْتَب بعدُ في الحياة الحقيقية إلا للمؤمنين فقط، لأن التقوى فاصل حاسم بين فريق الجنة وفريق النار ((إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ))، ((وإِنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّا ثُمَّ نُنْجِي الذِينَ اتَّقَواْ ونَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جُثِيّا)).
12- الإسلام رحمة شاملة :
إذن الإسلام جملة هو عبارة عن رحمة في قِسمه النظري وقسْمه العملي، ومحمد صلى الله عليه وسلم بسبب مساواته في الجانب التطبيقي لهذا القرآن -لأنه أوتي القرآن ومثلَهُ معه- فالقرآن هاهو والمثلُ كان هو صلى الله عليه وسلم، حين قال، وحين فَعَل، وحين أقرَّ، مما صحَّ طبعا. إذن هو بالقرآن، وبالاسلام صار رحمة، لكن لمن؟ هنا السؤال : هل هو رحمة لنفسه فقط؟ هل هو رحمة لمن آمن به فقط؟ هل هو رحمة للإنسان فقط؟ هل هو رحمة للإنسان والحيوان فقط؟ هل هو رحمة للإنسان والحيوان والنبات فقط؟ إنَّهُ رَحْمَةٌ للعالمين، والمسلمون رحمة للعالمين أيضا. والمسلم بقدر قربه من محمد صلى الله عليه وسلم يتسع معنى الرحمة فيه، لأن الإسلام الذي جاء من عند الله ، جاء عاما، يعُمُّ نفعه الناس جميعا (مَثَلُ الذِي بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ) حاله كحال ضياء الشمس، تشرق الشمس على البَّر والفاجر، -وكحال هذا الهواء المُشاع للجميع، وكحال الغيث ينزل على الجميع. والمسلمون الذين يمثلون ذلك الهدى -وهم في الحديث الطائِفَةُ الطَّيِّبَةُ- عليهم كذلك أن يتسعوا في معانيهم حتى يصيروا كالغيث، أو كالغيوث، أي كهذا المعنى العام للرحمة بكل مستلزمات الرحمة، إذ يدخل كل ما في كتاب الله في معنى الرحمة سواء ما اتجه منه إلى جهة الانعام، أو ما اتّجَه منه إلى جِهَة المُؤَاخَذَةِ والتَّأْدِيبِ فذلك أيضا من رحمة الله، وذلك مَظْهُرٌ لمَظَاهر الرَّحْمة الشاملة في الدنيا.
13- فَهم المعنى الحقيقي للحياة يصوغ إنسانا يوثر الآخرة :
هذا المعنى للحياة هو التصوّر الإيماني الحقيقي للحياة، وعليه تُبْنى حياة ويُنْتج ويُصاغُ إنسان، لايُوثِرُ العاجلة على الآجلة، بل يوثر الآجلة على العاجلة، على هذا التصور يصاغ إنسان يريد بالدنيا الآخرة ((وابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ)) نعم ((ولاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) إلا أن الدنيا في موقعها من الحياة جُمْلَةً -في التصور الإيماني الروحي هذا- مُجَرَّدُ متاع صغِيرٍ بَسِيطٍ، مجرد اسْتِمْتَاعٍ بِلحَظَاتٍ فقط، وهو نَفْسُهُ ما تُشِيرُ إليه الآية ((ولَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ومَتَاعٌ إِلَى حِينٍ))-سورة البقرة-، متاعٌ إلى حين، وذلك المَتَاعُ لمَنْ؟ لمن اعتبره هُو الحَيَاة، وهذا المتاعُ هو الذي يسمى بالنسبة للمُغْتَرِّ به متاع الغرور ((ومَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلاَّ مَتَاعُ الغُرُورِ))-سورة الحديد- لكون الإنسان خُلِق خلقا معينا فيه استعداد كبير للتجاوب والاستجابة للشَّهَوَاتِ ((ونَفْسٍ ومَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)) وهَذَا الاستعداد في الإنسان للاستجابة للشهوات هو الذي رتَّب الله عليه سنة الابتلاء ((خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُم أحْسَنُ عَمَلاً))-سورة الملك- وبِسَبَبِ هذا الاستعداد كانت آيات كثيرة وأحاديث كثيرة تُزَهِّدُ المسلم في الدنيا، بما في تركيب الانسان من مَيْل شَدِيدٍ إلى هذا الاتجاه بَلْ وتُمَثِّل له الدنيا بكاملها على أنها مجرد متاع أو متاع الغرور ((كَمَاءٍ أنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَاكُلُ النَّاسُ والأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أهْلُهَا أنَّهُمْ قَادِرُون عَليْها أَتَاهَا أمْرُنَا لَيْلاً أوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأن لَمْ تَغْنَ بالأَمْسِ))-سورة يونس- ((فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ))-سورة الكهف-.
ففي الآيتين معا تصويرٌ للحياة على أنها سريعة عابرة لا ينبغي أن تَغُرَّ الإنسان بحلولها وحضورها وحضوره هو فيها، كل ذلك ينتهي سريعاً، ولهذا صلى الله عليه وسلم : (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) فَلَوْ وضعنا زمان عُمُر كلِّ واحد منا -ولو كان ذا القرنين- إلى حساب ما سبق، وحساب ما يلحَق في الحياة البرزخية، وحساب ما سيلحق في الحياة الآخروية التي لا نهاية لها، لَبَدَا الإنسانُ مُجَرَّدَ عَابِرِ سبيل فقط، (كُن في الدّنْيَا كأنك غريب) ليست الدار دارك، ولا مكان إقامتك، ولا ينبغي أن تتعلق بِهَا، بل ارْكَبْ ما فيها واتجِهْ إلى الحياة الحقيقية، اسْتَعْملْهَا، أرِدْ الآخرة بها.
14- فساد التصور والفهم لمعنى الحياة هو سبب الوهن :
من هنا نأْتِي إلى أمْرِ الَوَهَن الذي بدأنا به الكلام وفسره الرسول صلى الله عليه وسلم بِحُبِّ الدنيا وكراهية الموت، ونتساءل كيف يحب المسلم الدنيا؟ لا يُحِبُّهَا إلا إذا شَابَ تَصَوُّرَهُ لِمَعْنَى الحياة شَوَائِبُ، إنْ لَمْ يَكُنْ قَد فَسَد تماما، إذْ ذَاكَ فقط يمكنه أن يقْصُرَ حَيَاتَهُ على الدنيا، ويتجه إلى الدنيا ويتعلّق بالدنيا ويهتمَّ ويحْرِصَ على الدنيا، ويَطْمَئِنَّ بالدنيا، ويَرْضَى بالدُّنْيَا ويُخلد إلى الأرض و و.. إلى غير ذلك مما فصّلْت وأطَالَتْ فيه الآيات القرآنية الكريمة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لا يمكن أن يكون هذا إلا إذا كان في التصور فسَادٌ فيجب إذن أن يُرجَع إلى الآيات الكريمة التي تتحدث عن الحياة مطلقا، فحيثما وجد لفظ الحياة، وحيثما كان لفظ الحياة ينبغي تتَبُّعُهُ في سياقاته القرآنية لاستخلاص تصور شامل في النهاية لمفهوم الحياة في القرآن الكريم، لابد أن يُحْيَى معنى الحياة في القرآن الكريم في النفوس ليستطيع الانسان أن يعرف معنى الحياة حقيقة، وهذا منهج كامل في استخلاص المفاهيم جملة لتصحيح التصور الجزئي والكلّي لهذا الدين، انطلاقا من كتاب الله عز وجل.