ضرورة اعتبار المآل في واقعنا الحالي
إن اعتبار المآل جزء لا يتجزأ من الاجتهاد التطبيقي عند المسلمين، ومن المعلوم أن إقامة دين الله على الأرض هو هدف كل مسلم مخلص، وقد أصبح واضحاً أكثر من أي وقت مضى أن فهم النصوص الشرعية واستنباط الأحكام منها لم يعد كافيا لتحقيق الهدف المنشود، بل لابد من اقترانه بالمنهج التطبيقي الذي يراعي مقاصد الأحكام ومآلاتها أثناء التنزيل.
إن المتأمل في أحوال الواقع الإسلامي الراهن يلحظ الفجوة الكبيرة بين المسلمين ودينهم سواء على مستوى السلوك الفردي، أو التطبيق الاجتماعي، أو على مستوى الايمان العقدي بحاكمية الشريعة. وفي اعتقادي، إن السبيل للقضاء على هذه الفجوة يكمن في الاعتماد على منهج علمي أصيل قوامه معرفة النصوص الشرعية، وما تتضمنه من أحكام، ثم دراسة طبيعة الوقائع والأحداث، وإدراك أحوال فاعليها وما يحف بهم من ملابسات وظروف قصد تنزيل الأحكام على الواقع المعيش.
وفي غياب هذا المنهج، لن نستطيع إصلاح الواقع المبتعد عن الشريعة الاسلامية، ولن يتأتى لنا الجواب عن كثير من النوازل والأحداث المستجدة. والدليل على ذلك أن إهمال المنهج التطبيقي بصفة عامة، وعدم اعتبار المآل بصفة خاصة هو السبب في الحاق كثير من الأضرار والمشاق بالناس أثناء تنزيل الأحكام. بل إن مظاهر هذا الإهمال بدت واضحة من خلال تعامل بعض التواقين إلى إقامة دين الله على الأرض مع كثير من المدعوين، إذ نجدهم يسعون إلى القيام بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل آلي دون مراعاة المآلات التي قد تنجم عن أمرهم أو نهيهم وخذ في ذلك مثلا -كما قال الدكتور عبد المجيد النجار- ((التشبث الملح من قبل بعضهم بتطبيق المنع في مصافحة المرأة مما انجر عليه ظروف المجتمع الإسلامي الراهن نفور من قبل بعض الناس من الدعوة إلى الإسلام نفسها…))(في المنهج التطبيقي للشريعة الاسلامية : 20).
ومن الأمور المخجلة التي عرفها واقع المتدينين والتي تظهر بجلاء آفة عدم اعتبار المآل في التصرفات والأفعال، نذكر على سبيل المثال : ما يعتري عملية استيعاب الناس إلى الإسلام من تصرفات قد تؤدي بالفرد المبتدئ -لاقدر الله- إلى النفور والابتعاد عن التمسك بدينه : إذ بمجرد ما يشرع الفرد في القيام بالصلوات الخمس يؤمر بتكاليف فوق طاقته، من قبيل قيام الليل يوميا، والإكثار من الذكر، وصيام بضعة أيام في الأسبوع… إن هذه التكاليف في الأصل مأمور بها شرعا من جهة الندب، لما تحققه من مصالح : كتقوية الايمان، وتهذيب النفس… لكن، أثناء الأمر بتطبيقها لابد من مراعاة ظروف ومستوى كل شخص على حدة، كي لا يؤول الأمر إلى تحقيق مفاسد غير متوقعة.
ومن الأمثلة المستوحاة من الواقع أن هناك بعض المتدينين المبتدئين الذين أخذ منهم الحماس مأخذه، يحاولون جاهدين إقناع أهليهم وذويهم بتطبيق أوامر الدين ((فيسرعون الانكار على أب مقترض بربا، أو شارب للخمر، ويأمرون نساء بيوتهم بالحجاب، ويلزمونهن بترك المعاصي التي درجن عليها واستسهلناها فيكون الرفض، وتستعر معركة مبكرة متعبة مع الأهل تفقدهم السكينة اللازمة لمرحلة التربية الابتدائية…))(أحمد الراشد، المسار : 136).
حقيقة، إن القيام بمحاولة إقناع الأهل والأحباب بالالتزام بالأوامر الالهية من الأمور التي أمرنا سبحانه بالاهتمام بها، لكن أول ما يشترط في ذلك : تقدير مآل الفعل الذي سنقدم عليه، هل سيحقق المصلحة المقصودة فنقدم، أو العكس فنؤجل ذلك ريثما تتحقق الشروط الملائمة.. كي لا تكون النتيجة عكسية، ونندم حيث لا ينفع الندم.
عموماً، إذا كان اعتبار المآل ضروريّاً في كل أفعال الانسان وتصرفاته، فإنه يصبح أشد ضرورة كلما تعلق الأمر بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وذلك لأهمية هذا المجال في تعبئة جماهير المسلمين من أجل رفع راية الحق، والتوجه قبلة الدين الشامل.
ولا ننسى التذكير في الأخير، أننا عندما ننادي بضرورة مراعاة المآل أثناء تنزيل الأحكام على واقعنا الحالي، فإننا لا نقصد بذلك تعطيل الأحكام كلية وبصفة نهائية، وانما المقصود استحداث حكم لائق يلائم حال وظروف الواقعة المتحدث عنها، أو تعهد الحكم بالاقرار، أو التعديل أو الاستثناء أو التاجيل.. وذلك طبعاً بحسب ما يتبين من تحقيق المصلحة المراد الحصول عليها، لا بحسب التشهي واتباع الهوى.