4- أخلاقنا
وعلى هذا الأساس أود -أيها الإخوة أن نراجع معاً بعض أخلاقنا -والدين النصيحة- ولقد نقرأ في كتاب الله كيف يعرض ربنا مشكلات المجتمع الإسلامي الأول في مكة والمدينة، ويعالجها في وضوح لا لبس فيه ولا غموض، والنبي صلى الله عليه وسلم يصف ديننا فيقول : ((تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك))(1).
والذي ألا حظه في أخلاقنا وعلاقاتنا، أننا لا نعرف الاتزان الدقيق، فإذا رضينا عن أحد رفعناه إلى السماء، وإذا كرهناه هبطنا به إلى أسفل سافلين، ونسأل الأخ عن ذلك فيقول لك : (الإيمان حب وبغض!!) والفهم الأبتر لهذه الكليات يوقعنا في كثير من الخطأ، ونحن كثيراً ما نكتفي بأشتات من المعرفة الإسلامية -نجمعها من الحفلات والقراءات السريعة- لا تصلح بحال لتكوين فكرة سليمة عن الإسلام.
أ- ولعل من أكرم صور الاتزان في الحكم وبُعْد الأفق وشمول النظرة، ما قاله أبو داود عن عمر بن أبي قُرة قال : كان حذيفة بالمدائن يذكر أشياء قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأناس من أصحابه في الغضب، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة، فيأتون سلمان الفارسي رضي الله عنهما فيذكرون ذلك له فيقول : حذيفة أعلم بما يقول : فيرجعون إلى حذيفة فيقولون له : قد ذكرنا قولك لسلمان، فما صدقك ولا كذبك. فأتى حذيفة سلمان رضي الله عنهما، فقال : ما يمنعك أن تصدقني فيما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال سلمان : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب فيقول في الغضب، ويرضى فيقول في الرضا. ثم قال : ياحذيفة! أما تنتهي حتى تورث رجالاً حب رجال، ورجالاً بغض رجال، وحتى توقع اختلافا وفرقة؟! ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : ((اللهم إني أتخذ عندك عهدك، أيما رجل من أمتي سببْتُه سُبةً أو لعنتُهُ لَعْنَةً في غضبي فإنما أنا من ولد آدم، أغضب كما يغضبون وإنما بعثني رحمة للعالمين، فاجعلها عليهم صلاة يوم القيامة)). والله لتنتهين يا حذيفة، أو لأكتبن إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه(2).
ب- وأخرج أبو داود والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يبلِّغني أحد عن أحد من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر))(3).
ج- وعندما شرح الإمام ابن كثير أحوال المنافقين في المدينة في سورة التوبة، أورد قصة حَرْملة في الحديث الذي يرويه أبو الدرداء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أن رجلاً يقال له حرماة أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الإيمان ههنا. (وأشار بيده إلى لسانه) والنفاق ههنا (وأشار بيده إلى قلبه)، ولم يذكر الله إلا قليلاً. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((اللهم اجعل له لساناً ذاكراً وقلباً شاكراً، وارزقه حبي وحب من يحبني، وصيِّر أمره إلى خير)).
فقال : يارسول الله : إنه كان لي أصحاب من المنافقين وكنت رأساً منهم، أفلا آتيك بهم؟ قال : ((من أتانا استغفرْنَا له، ومن أصَرَّ فالله أولى به، ولا تخرقَنَّ على أحَدٍ سِتْره))(4).
د- والله سبحانه وتعالى أمرنا فقال : ((ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظنِّ إن بعض الظنِّ إثم، ولا تجسسوا، ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحمَ أخيه ميْتاً فكرهتموه. واتقوا الله إن الله تواب رحيم))(5).
فكيف يستبيح بعضنا السعي بأخبار بعض، وإشاعة السوء بين المؤمنين، وتمضية الوقت في الحديث عن فلان وفلان؟!..
وأنت إذا حدثك أحد إخوانك عن آخر بسوء، فصارحه من أول الأمر بأنك تريد أن تجمع بينهما، أو ليذهبا معاً إلى أخ يرضوْنه حكماً، ونقِّ مجلسك من سماع السوء وقوله، وذكر نفسك ومحدثك بما جاء في الكتاب والسنة عن ذلك… أما أن يتسرب إلينا ما نهى الله عنه من الغيبة والنميمة والتجسس، ويستباح باسم (مصلحة الدعوة!!) نهش لحوم الغائبين، والخوض في أقدارهم وأعراضهم، وتجد النفوس الضعيفة ما تتزلف به تحت ستار الغيرة على الجماعة، فهذه أخلاق يبرأ منها الإسلام ولا يعرفها الرجال.
إن الله أنزل هذا الإسلام على الأمة العربية من أول الأمر واختارها لمزايا خاصة.. وأنت تقول لمن يحدّثك ((أعرِبْ عما في نفسك)) إذا أردت الإبانة والوضوح.. فهذه أمة وضوح، وديننا دين وضوح، لا يضل عنه إلاّ هالك.
والإسلام لا يعرف الأجواء ذات الأضواء والظلال، والبسمة المنافقة، والوعد الكاذب، والشماتة في المبتلي، والتفاهة في الصداقة والخصومة، وإنما تبرز معادن الرجال في المحن والضيق، ويتجلى نبل الخلق حين يشتد الأمر، ولا يستطيع الإمساك بالحق إلاّ أهله الأوفياء الذين يعملون بواضح الكتاب والسنة غير فاتنين ولا مفتونين.
5- لا عصبية :
ولا تستطيع دعوة أن تحيا دون أن تكون في رجالها الجرأة على قول الحق ولو على أنفسهم، واتباعه غير متأثرين بمنصب أو جاه أو عصبية عمياء.
فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال : قلت يا رسول الله، ما العصبية؟ قال : ((أن تعين قومك على الظلم))(6)(أخرجه أبو داود).
6- ولا اتباع بغير دليل :
ونهانا ربنا عن أن يكون عملنا بغير دليل فقال : ((ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً))(7) وحذرنا سوء المصير في قوله : ((وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير))(8).
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((لا يكوننّ أحدكم إمَّعة. قيل : وما الإمعة؟ قال : ((الذي يقول أنا مع الناس))(9). وأعطانا ابن مسعود صورة حسية لهذا النوع من الناس فقال : ((كنا نعد الإمعة في الجاهلية الذي يتبع الناس إلى الطعام من غير أن يدعى، وإن الإمعة فيكم المحقِبُ الناسَ دينَه))(10).
7- القوة والحق :
وينبغي أن يُرَبَّى شبابٌ على ذلك من أول الأمر، فنحن لا نريد جيلاً من الأرقاء الذين ذابت شخصياتهم في آلة ضخمة، وإنما نريد المسلم القوي الذي يستطيع أن يكون دائماً نقطة بدء في الوعي الإسلامي، ويحافظ على حيويته ومقوماته، ويهدف من تعاونه مع شخصيات قوية مثله إلى تكوين الجيل المسلم المرتجى الذي يعمل لدينه، لا يستخفه انحراف، ولا يقعد به عجز، ولا يتلفه غرور.
وإليكم نماذج من تعاون الأقوياء، وكيف عاشوا على الخلق العالي الذي عجزت عنه فتن الدنيا :
- جاء عُيَيْنَة بن حصن والأقرع بن حابس إلى أبي بكر رضي الله عنه، فقالا : ياخليفة رسول الله، إن عندنا أرضاً سبخة ليس فيها كَلأٌ ولا منفعة فإن رأيت أن تعطيناها لعلنا نحرثها أو نزرعها ولعل الله أن ينفع بها بعد اليوم. فقال أبو بكر لمن حوله : ما ترونه فيما قالا؟ قالوا : إن كانت أرضاً سبخة لا يُنْتَفع بها فنرى أن تقطعها لعل الله أن ينفع بها بعد اليوم. فأقطعهما إياها، وكتب لهما بذلك كتاباً وأشهد -وعمر ليس في القوم- فانطلقا إلى عمر يُشْهِدانه فوجداه يهْنَأ بعيراً له، فقالا : ((إن أبا بكر يشهدك على ما في هذا الكتاب فنقرأه عليك أو تقرأ؟ قال : أنا على الحال التي ترياني : فإن شئتما فاقرأا وإن شئتما فانتظرا حتى أفرغ فأقرأ عليكما. قالا : لا، بل نقرأ، فقرآه فلما سمع ما في الكتاب تناوله من أيديهما ثم تَفَلَ فيه فمحاه، فتذمَّرا وقالا مقالة سيئة. فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله عز وجل قد أعز الإسلام. اذهبا فاجهدا جهدكما لا رعى الله عليكما إن رعيتما. قال : وأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا : والله ما ندري من الخليفة!! أنت أم عمر؟ قال : بل هو لو كان شاء. قال : فجاء عمر وهو مغضب حتى وقف على أبي بكر، فقال : أخبرني عن هذه الأرض التي أقطعتها هذين، أرض هي لك خاصة، أم بين المسلمين عامة؟ قال : بل هي للمسلمين عامة. قال : فما حملك أن تخص بها هذين دون جماعة المسلمين؟ قال : استشرت هؤلاء الذين حولك، أفكل المسلمين أوسعتهم مشورة ورضى؟ قال أبو بكر : قد كنت قلت لك إنك أقوى على هذا مني، لكنك غلبتني(11).
- واربطوا هذه القصة بموقف أبي بكر يوم وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وموقفه في بعث أسامة حين أرسلت الأنصار عمر إلى أبي بكر ليحبس الجيش أو ليولي عليهم رجلاً أقدم سناً من أسامة. فقال أبو بكر : والله لو علمتُ أن السباع تجر برجلي إن لم أردَّه ما رددتُه، ولا حللتُ لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عمر : إن الأنصار أمروني أن أبلغك، وهم يطلبون إليك أن تُولِّي أمرهم رجلاً أقدم سناً من أسامة؛ فوثب أبو بكر وكان جالساً فأخذ بلحية عمر، فقال تكلتك أمك وعَدِمَتْك يا ابن الخطاب! استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأمرني أن أنزعه!.
فخرج عمر إلى الناس، فقالوا له : ما صنعت؟ فقال : امضوا ثكلتكم أمهاتكم، حسبي ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله(12).
- ثم موقفه في حروب الردة حين جاءه عمر يقول : تألف الناس وارفق بهم فقال أبو بكر : رجوت نصرتك، وجئتني بخذلانك!! أجَبَّارٌ في الجاهلية وخَوَّار في الإسلام؟! إنه قد انقطع الوحي وتم الدين أويَنْقُصُ وأنا حي!!(13) .
قال عمر رضي الله عنه فما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال حتى عرفت أنه الحق(14).
فروضوا أنفسكم على قول الحق والخضوع له دائما، واعملوا بهذا فيما بينكم فإذا نجحتم فحاولوا أن تجمعوا عليه الناس.
—————————
الهوامش :
1- المنذري الترغيب والترهيب : 1/52 (رواه بن أبي عاصم في كتاب السنة عن العرباض بن سارية).
2- تيسير الوصول 24/4
3- تيسير الوصول 3/218.
4- تفسير ابن كثير : 2/384.
5- سورة الحجرات : الأية 12 أرجو أن يتدارس الإخوان تفسير سورة الحجرات من تفسير ابن كثير
6- تيسير الوصول 24/4
7- سورة الإسراء الآية 36.
8- سورة تبارك الآية 10
9، 10- راجع مادة (أَمَعَ) في الفائق للزمخشري : 1/42 المحقب : المردِفُهُ.
11- تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي ص 32.33.
12- أبو بكر الصديق لعلي الطنطاوي ص 159 عن الطبري.
13- أبو بكر الصديق لعلي الطنطاوي ص 163 في الصحيحين .
14- المرجع السابق ص 163 (أخرجه النسائي).