تثير قضايا الحجاب حفيظة كثير من المدرسين الفرنسيين الذين عبروا عن امتعاضهم مما اعتبروه تساهلا مبالغا فيه من قبل الحكومة تجاه هذه القضايا، والحكومة عاكفة الآن على صياغة قانون جديد قد ينال رضا أعضاء هيئة التدريس.
السيدة جيزيل فام، نائبة رئيس بلدية كالويرايكوير المكلفة بالشؤون الاجتماعية، ضربت موعدا في مكتبها مع سيدة مسلمة لمحاولة إقناعها بمنع بنتها ذات التسع سنين من ارتداء الحجاب داخل قاعة الدرس. لقد أصيب جيزيل بالذهول عندما طرقت بابها تلك السيدة المسلمة في الموعد المحدد : “كانت ترتدي تشادورا أسود على طريقة (الطالبان)، وحتى عيناها لم يكن بالإمكان رؤيتهما”. كانت ترافقها ثلاث سيدات، إحداهن شابة على دراية تامة بأدلة الحجاب في الإسلام، وعلى إلمام كبير بقوانين مجلس الدولة، الشيء الذي مكنها من الجزم بأن “منشور بايرو” ليست له أدنى قيمة قانونية.
قالت هذه السيدة الشابة لجيزيل : “إن الحجاب فريضة دينية على المسلمات”، فردت عليها جيزيل : “ولكنه عندكم في تونس ممنوع في المدارس” فقالت السيدة المسلمة : “نحن في فرنسا ولسنا في تونس”.
تقول جيزيل فام : “لقد شعرت بالهزيمة، لأن كلمات تلك السيدة جردتني من كل سلاح أو حجة أدافع بها عن موقفي، ففي غياب أي نص قانوني في موضوع الحجاب، لم يكن بإمكاني الدفاع عن علمانية التعليم ولا عن القيم الجمهورية التي تتعرض للإهانة ليس فقط من طرف الأصوليين ولكن من طرف مجلس الدولة والمحاكم الإدارية أيضا.
إن جيزيل فام ليست سوى واحدة من عدد كبير من المواطنين الذين تستفزهم قرارات وأحكام مجلس الدولة، ولسان حالهم يقول : ما ذا يتبقى لفرنسا من مؤسسة أباحت تعدد الزوجات وتصر الآن على إقبار منشور بايرو؟.
إن منشور بايرو الذي صدر في شتنبر 1994 ونجح في تخفيض عدد المحجبات في المدارس من عدة آلاف إلى بضع مئات يعتبر الآن متجاوزا، إذ بادر نائب رئيس مجلس الدولة إلى تسفيهه فور صدوره وذلك في مقابلة له مع صحيفة لوموند، وبعد ذلك صدرت عن المحاكم الإدارية في كل من نانسي ستراسبورغ سنة 1995 عدة أحكام تقر المحجبات على حجابهن وتلوم المديرين الذين طردوهن اعتمادا على منشور بايرو، أما القشة التي قصمت ظهر البعير فقد حدثت عندما أدينت الحكومة من طرف محكمة نانسي التي أمرت لأسرة طردت ابنتها بسبب الحجاب بتعويض مالي مقداره 50000 فرنكا فرنسيا وحكمت لصالحها بالعودة إلى مدرستها والاحتفاظ بحجابها. أما في سنة 1996 فقد واصلت العدالة الإدارية إلغاءها لقرارات طرد المحجبات بحجة أن مبررات الطرد ـ وهي حسب المديرين الإخلال بالنظام العام وإظهار الانتماء الديني ـ غير كافية، وإلى حدود شهر أكتوبر من هذه السنة تم إلغاء 55/ من قرارات الطرد المذكورة وأعيدت المحجبات المطرودات إلى مدارسهن.
يقول أحد المدرسين الفرنسيين “تقع المدرسة التي اشتغل بها قرب جالية مغربية كبيرة متأثرة بإمام أصولي فرنسي يرفض تذويب الجالية المسلمة ويطالب بإدماجها على أساس حقها في الاختلاف” ويأسف هذا المدرس لكون “هذه الفكرة تجد صدى طيبا لدى السلطات البلدية ورابطة حقوق الإنسان المحلية ولدى بعض الأوساط المؤيدة لمجتمع فرنسي متعدد الثقافات”. أما في مدينة ألبيرفيل فقد كسر الأساتذة جدار الصمت حول تنامي ظاهرة الأصولية الإسلامية في المدارس وذلك بدعوتهم إلى إجراء استفتاء شعبي حول العلمانية وبتظاهرهم أمام مبنى الولاية، وقد عبر الناطق باسم هؤلاء الأساتذة عن رأي يتبناه كثير من زملائه حين قال : “إن الحجاب يعتبر نقضا للمساواة بين الجنسين، ورفضا للاندماج في المجتمع الفرنسي، وتدخلا في الحريات الشخصية”.
لقد استشعر عدد كبير من الأساتذة خطورة الموقف فبادروا إلى القيام بحملة لجمع التوقيعات من الأهالي ومن كبار المثقفين يطالبون فيها بسن قانون من أجل علمانية التعليم، ويطالبون فيها بأن “يقتصر دور المدرسة على التعليم وعلى ترسيخ المبادئ التي توحد الفرنسيين لا على تلك التي تفرقهم بل قد تؤدي إلى تمزيق المجتمع الفرنسي إلى مجموعة من الطوائف المتناحرة”.
في خضم هذه الضجة الكبيرة حول الحجاب توالت التصريحات والتصريحات للضادة، فقد صرح وزير التعليم لقناة R T L “إن المدارس التي هي محاضن القيم الجمهورية وعليها تقع مسؤولية تكوين المواطنين لا يمكن أن تسمح ببروز مظاهر الأصولية ولا بالتمييز بين الذكور والإناث”، فرد عليه نائب رئيس مجلس الدولة قائلا : “إن ارتداء الحجاب في حد ذاته لا يعد مبررا كافيا للطرد”. غير أنه من الملاحظ أن مواقف مجلس الدولة اتسمت خلال الفترة الماضية بالتذبذب والاضطراب فهو تارة يقر بطرد المحجبات وتارة يلغي قرارات الطرد والسبب هو عدم وجود قانون ملزم في هذا الباب.
بعض المستشارين القانونيين لم يروا بأسا من ارتداء الفتيات المسلمات الحجاب داخل المدارس، فزملاؤهن من النصارى يعلنون الصليب في رقابهن، واليهود يضعون الطاقية على رؤوسهم داخل المدارس “فليس من الإنصاف في شيء التسامح مع هؤلاء والصرامة مع أولئك”، بينما رأت طائفة أخرى “بأن الحجاب سوف يختفي من تلقاء نفسه خلال عشر سنوات، ألم تكن الفرنسيات قبل خمسين سنة يضعن غطاء للرأس؟!”، ان العلمانية حسب هؤلاء وأولئك مبدأ محايد يفسح المجال لفضيلة التسامح التي ليس لها من معنى سوى احترام حرية الاعتقاد عند التلاميذ واحترام حقهم في الاختلاف.
إن هذا الرأي يجد معارضة من قبل بعض أعضاء مجلس الدولة. يقول واحد منهم : “ليس من صلاحية هذا المجلس الخوض في مثل هذه القضايا، بل على المنتخبين أن يتخذوا موقفا محددا ويقرروا ما إذا كان للحجاب أبعاد إيديولوجية، كما أن المجلس يتمنى أن تتحمل الحكومة مسؤوليتها السياسية حيال قضية الحجاب، وعلى البرلمان ـ إذا كان يحترم نفسه ـ أن يبادر إلى سن قانون للعلمانية”.
خلاصة القول وبعيدا عن الإشكالات القانونية، يحق للمرء أن يتساءل : ما مدى استعداد فرنسا للمضي في طريق التعدد الثقافي الذي يبدو، ألا مفر منه؟ هل الفرنسيون على استعداد الآن لتطبيق علمانية كاملة لا تنصف النصارى واليهود فقط بل تنصف المسلمين كذلك؟
وفي غياب جواب على هذه الأسئلة لا تزال بضع مئات من التلميذات يتحدين أعلى سلطات البلاد، والغريب أنه بإمكان قطعة صغيرة من التوب( الحجاب) أن تعرض عقدنا الاجتماعي بأكمله إلى التفكك والانحلال.
عن مجلة Le Point 7/12/96 ع 1264
ترجمة : أبو اسماعيل (بتصرف)
* منشور بايرو : مذكرة وزارية أصدرها وزير التعليم الفرنسي فرانسو بايرو تحظر ارتداء الحجاب في المدارس والثانويات باعتباره منافيا لعلمانية الدولة.