انتهت الحرب العالمية الثانية وكانت اليابان من بين الدول المنهزمة، وخصوصا وانها تجرعت مرارة الردع النووي الذي كان تعبيرا عن التفوق العسكري الامريكي. وعوض أن تستسلم اليابان للهزيمة واصلت المواجهة مع امريكا، لكن هذه المرة على مستوى جبهة اخرى وذلك بفتح الباب على مصراعيه للمواجهة الاقتصادية. وقد تجندت لخوض هذه الحرب كل الفعاليات سواء تعلق الامر بالمشاركة الفعالة للدولة أو بجرأة وديناميكية المقاولات الخاصة.
لقد استطاعت اليابان خلال ظرف وجيز ان تكسب الرهان بل ابهرت العالم بانجازاتها حتى اصبحت هذه التجربة تتصف عند منعدمي الفعالية مثلنا في خانة المعجزات. ولمحاولة الوقوف على بعض اسباب هذا النجاح سوف نعرض لموقف رئيس شركة يابانية (طيوطا) بعد انتهاء الحرب، اذ قال لأحد مساعديه : يجب أن نلحق بامريكا في اقل من اربع سنوات لكن ما هو السبيل للوصول الى ذلك؟.
هناك حل اسهل يكمن في تقليد النموذج الامريكي للانتاج الصناعي، لكن هذا الحل تم استبعاده لأن نقل هذا النموذج حسب رئيس هذه الشركة سيؤدي الى كارثة اقتصادية في اليابان، فاذا كان النموذج الامريكي قد نجح في بيئة ملائمة وفي ظروف اقتصادية خاصة فلا يعني ذلك بانه يكتسي طابع الكونية والايجابية في كل الاحوال والظروف. وايمانا بهم بعدم جدوى هذا الحل لجأ مسؤولو هذه الشركة الى التفكير في نمط انتاجي يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية.
وفي هذا الصدد اهتدى هؤلاء الى مقولة التفكير بالمقلوب والتي تقتضي عكس او قلب المنطق الامريكي للانتاج الصناعي الذي تم نقله بعد ذلك الى اوربا ثم الى بعض الدول النامية.
هذا المنطق يقوم على اساس هيكلة البنيات الصناعية انطلاقا من عقلية الانتاج : ننتج وباكبر كمية (لأن ذلك يؤدي الى تخفيض تكلفة الوحدة المنتجة) ثم تأتي بعد ذلك عمليةالتسويق والبحث عن الزبائن. اما المنطق المقلوب الذي تبناه اليابانيون فينطلق من السوق (المستهلك) ثم يعيد هيكلة العمليات السابقة صعودا حتى المنتج، فاذا كانت قيادة العمليات في النمط الانتاجي الامريكي تبتدأ من الانتاج فانها في المنطق الياباني تنطلق من السوق.
لقد ادى التفكير بالمقلوب ببعض الشركات اليابانية الى تحقيق نجاح عالمي باهر على مستوى الاعمال، ونخص بالذكر منها طيوطا التي يتجاوز رقم معاملاتها السنوي 40 مليار دولار. اكثر من ذلك، فان النمط الياباني قد أبان على قدرة فائقة في التأقلم مع الازمة العالمية التي تتخبط فيها مختلف الاقتصاديات منذ السبعينات. هذا في الوقت الذي عجز فيه النمط الامريكي للانتاج عن مواكبة الظروف الاقتصادية الجديدة. وهذا ما دفع الشركات الامريكية ثم بعد ذلك الاوربية الى تبني النمط الياباني، كان اولاها شركة فورد التي كانت وراء ازدهار النموذج الامريكي.
بعد عرض هذه التجربة من حقنا ان نتساءل عن اسباب انتكاسة العالم النامي عامة والعالم الاسلامي والعربي خاصة الذي لا يحسن لا الانتاج ولا حتى الاستهلاك فكيف باقامة العمران بالمفهوم الخلدوني للكلمة.
للاجابة على هذا السؤال يمكن ان نقول بأن اسباب هذا التراجع تكمن في كوننا لم نفكر بالمقلوب او على الأقل بطريقة مختلفة.
كانت فترة الاستقلال مناسبة بالنسبة لحكومات الشعوب الاسلامية للتفكير في برنامج تنموي يأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات المحلية لمختلف هذه الدول الشيء الذي يتطلب استقلالية في التفكير. لكن البلدان الاسلامية كانت على موعد مع مخطط يقضي بمحو كل ما هو محلي في البرامج التنموية والتعليمية وفتح الباب على مصراعيه على كل ما هو مستورد. استوردنا القانون؛ البرامج التنموية؛ انماط التفكير.. كل شيء. بعبارة أخرى امضينا عقودا من الزمن في محاولة نقل كل ما رأيناه ناجحا فيالغرب. مرت مرحلة هامة من تاريخنا ونحن نحاول التقليد. والحصيلة مظاهر الأزمة على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية، واللائحة قد تطول. ولعل كلمة الازمة فيها تخفيف كبير في وصف حالة بعض دولنا الاسلامية التي افلست او على حافة الافلاس، ولا يستثنى من هذه اللائحة الدول النفطية.
واذا كان لابد من تفسير لهذا العجز العام فيمكن ان نقول بان الاستيراد الاعمى والتقليد الحرفي قد ساهما في ادخال الغريب في بيئات محلية مختلفة. هذا الغريب، بفضل الدعم الرسمي ودعم النخب بكل اشكالها، نما نموا سرطانيا محدثا بذلك عملية تشويه في بيئاتنا ومجالات حياتنا. تشويه في العقول، في السكن، في نمو المدن، في الاستهلاك. هذا التشويه ساهم بكل فعالية في وأد الطاقات والامكانات المحلية. ودليل ذلك ان معظم بلداننا تزخر بامكانات هائلة لكن لا يستفاد منها اطلاقا. مواردنا الطبيعية تهدر عائداتها في تمويل تحركات جيوش اجنبية، وعقول خيرة ابنائنا تستغل من طرف الدول المتقدمة. ومن مظاهر التشويه ايضا فقدان التوازن على مستوى السلوك الاجتماعي. فتعميم سلوكيات الكذب والغش والتدليس ادى الى سيادة الاحساس بعدم الثقة الذي تمكن من مجتمعاتنا. النتيجة الحتمية لهذا الوضع النفسي تتجلى في الاحتياط في التعامل مما يضعف التواصل، عدم الجرأة على المبادرة مما يقلص من فرص الاستثمار، فقدان الثقة في السياسات العامة مما يؤدي الى افشال اي مشروع اصلاح. وهذا من شأنه ان يزكي مظاهر السلبية ويقتل الفعالية والاحساس بالانتماء.
كثير من كتابنا المعاصرين يرجعون اسباب انحطاط العالم الاسلامي الى الضعف التدريجي للانتاج وتوالي عصور التقليد. لكن هؤلاء الكتاب لا يستوقفهم واقعنا المعاصر. هل فعلنا ما هو افضل؟ لا اظن ذلك انما استبدلنا تقليدا بتقليد من نوع آخر. تركنا تقليد الماضي ولجأنا الى تقليد غيرنا في كل شيء. وياليتنا وقفنا موقف احد ملوك الطوائف في الاندلس الذي رفض ان يستعين بقائد نصراني ضد امير مسلم كان على وشك هزمه في الحرب. لما اقترح عليه النصراني مساعدته قال له: افضل ان اكون راعي بقر عوض ان اكون راعي خنازير، هذا الملك لما تحقق من الهزيمة فضل ان يهزم على يد مسلم ليصبح راعيا للبقر من ان يهزم على يد نصراني ليصبح راعيا للخنازير.
وإن كان التقليد صورة من صور السلبية إلا أن هناك تقليد وهناك تقليد. فتقليد يصير صاحبه راعي غنم خير من تقليد يصيره راعي خنازير.
ويجب أن نفرق بين التقليد والاستفادة، فالتقليد امتثال اعمى والاستفادة تقتضي الانتقاء والاختيار والتصفية. والانتقال من مرحلة التقليد الى الاستفادة يستلزم اكتساب معيار، مقياس، نظارة، وبعبارة أكثر شمولية منهج يمكن من غربلة كل ما هو مستقدم سواء كان من الماضي أو من الثقافات الأخرى. فانعدام هذا المنهج عند أمة يجعل سلوكها الحضاري في مستوى سلوك الرضيع الذي لا يميز بين جمرة تحرق يده ولعبة تسليه.
واكتساب المنهج على الأقل في أبسط صوره غير مرتبط بالرقي المادي والتراكم المعرفي انما مرده الى وجود الحس أو الخلفية الحضارية. ولنا عبرة في قبيلة في تخوم افريقيا لما فكرت في استعمال السكة الحديدية في المحراث الخشبي استدعت اعيانها لمدارسة الانعكاسات المحتملة لهذه التقنية الجديدة، وقد تم تداول الآثار على ثلاث مستويات : تأثير هذه التقنية المستوردة على علاقات القبيلة مع الطبيعة وهنا نلمس الحس الايكولوجي، تأثيرها على العلاقات بين أفراد هذه القبيلة وهذا دليل على الحرص على التوازن الاجتماعي، ثم تأثيرها على علاقة القبيلة مع الله وهنا يتجلى الحرص على التوازن العقدي لأفراد هذا المجتمع.
لو كان مستوردونا (مستوردو الفكر والبرامج والتقنية..) على عُشُرِ وعي هذه القبيلة “المتخلفة” لكانت أوضاعنا أفضل مما هي عليه الآن.
إن غياب الحس الحضاري افقدنا اكتساب المنهج مما عرضنا طيلة عقود من الزمن للتشويه والمسخ نتيجة الاستيراد الأعمى والتقليد المقيت. وكان بامكاننا أن نحقق نهضة فعلية لو أننا استطعنا في يوم أن نفكر بالمقلوب.