ادريس أوهنا
نداء غيور إلى بعض مَن وسَّع الله عليهم في العلم في هذا البلد الحبيب، ممَّن يشتغلون في حقل الدعوة، وهم للأسف الشديد عازفون عن الكتابة والتأليف.
جاء في الأثر : “مداد العلماء أفضل من دماء الشهداء”.
إنكم تعلمون -أيها المقصودون بهذا الكلام القارئون ولاشك لهذا المقال- أن طلب العلم ونيْله تكليف من الله العليم الحكيم، إذا قدَّرناه حق قدره واستشعرنا أمانته غاب عنَّا وجه التشريف والامتياز فيه.
كما تعلمون أن الواقع يعجُّ بتصورات كثيرة واجتهادات متنوعة تختلف درجة قربها أو بعدها من الصواب، وكلّها موجَّهة للناس في هذا البلد، تحقيقا لواجب الدعوة والتبليغ، وأملاً في التمكين لهذا الدين من جديد في واقع الناس وحياتهم، وإلاَّ فقد تكفل الله بحفظه وأعلا من شأنه، وهؤلاء المقصودون بالخطاب والدعوة في بلدنا، كما تعلمون، حظُّهم من العلم ضئيل، وفهمهم للأمور بسيط. وكي يستبينوا الخيط الأبيض من الخيط الأسود من هذا الذي هو في الواقع، أو الخيط الأبيض من الخيط الأشدَّ أو الأقل بياضا، أو الخيط الأبيض من الخيط الذي سيفضي إلى سواد لا قدَّر الله، هم في حاجة ماسة إلى أدوات منهجية سليمة، وفهم صحيح للاسلام وقضاياه : تربوية كانت أو ثقافية أو سياسية أو اجتماعية… في أمور ومسائل جد حساسة كالمسألة الفنية وموضوع المرأة وأمور في السياسة والتربية وما يتعلق بتاريخ الحركة الإسلامية في المغرب… ولا أحسبكم والله أعلم إلا أهلا لهذه الأمانة الثقيلة، فلتتوكلوا على الله، ولتجردوا الحبر والقلم لهذا الأمر، أمر الكتابة والتأليف وأنتم أعلم بأولوياته وضرورياته في مختلف القضايا التي أشرت إليها سابقا. حتَّى إذا حكم عليكم القضاء كما حكم على الصالحين والمصلحين من قبلكم تركتم لنا وللأجيال من بعدكم الذاكرة، فمن أوصله جهده وطاقته إلى استيعابها كان في ذلك خيرا كثيرا، ومن استوعبها واستطاع أن يزيد عليها ويُبدع دونها كان ذلك من صميم ما يدعو إليه المنطق القويم والعقل السليم.
هذا وإنه لابد لأي تغيير أو عمل إسلامي راشد وموفق بإذن الله تعالى من حركة فكرية ممهِّدة تشِعُّ بين العباد، وفي مختلف أرجاء البلاد، فترتقي بوعي الناس وتكسبهم القدرة والمنهج السليم في التفكير والاعتقاد وفي السلوك والالتزام وفي فهم الشرع على ضوء معطيات واقعنا وتوازناته وقضاياه على كافة المستويات وفي مختلف المجالات، خصوصا ما تستوجبه المرحلة منها، وما تقتضيه ضرورياتها وحاجياتها.
كما أنني أعتقد، والله أعلم بأن لا “حركة” في الواقع بدون أدبيات ومقولات تؤطر من خلالها الرأي العام، وتشكل بواسطتها عقول الناس، وترتب أفكارهم، وتصحح مفاهيمهم تجاه كثير من الأمور. إنه ليس بعد هذا إلاَّ اضطراب الفكر وحيرة الشعور وتشتت الذهن بين مقولات من هنا ومقولات من هناك، أغلبها إن لم نقل كلها مشرقية، قد لا تنسجم في غالبها مع خصوصية واقعنا المغربي، وطبيعة الإشكالات والمعضلات المطروحة فيه.
وهذه ليست دعوة إلى التَّمرْكُز حوْل الذّات، وسدْل الحجاب في وجه الأفكار الأخرى والمذاهب والايديولوجيات المختلفة، لا أبدا طالما اننا نرفع شعار الانفتاح الموزون، ونرفض التقوقع الممجوج، وندرك حق الإدراك بأن في التنوع والاختلاف ثراء، وفي التماثل والأحادية جمود. ولكن في نفس الوقت نحن في حاجة أمس وأولى إلى أفكار وإبداعات وتجارب واجتهادات تنبت في صميم تربتنا، وتنبع من وسط آلامنا وطموحاتنا تسائل وتراود مشاكلنا الذاتية وتقترح إجابات لها مراعية إمكاناتنا وخصوصية بيئتنا ومحيطنا.
أتمنَّى أن تجد هذه الصيحة آذاناً صاغية وقلوبا واعية وأقلاما مجاهدة حتى تقللوا -أيها العلماء- من هذه الفوضى الحاصلة في مجال الأفكار والتصورات عند المشتغلين في العمل الاسلامي خاصة وعند أفراد الشعب عامة. وإلا فمسؤولية تطَفُّل، من يتطفل في هذا البلد، على كثير من الأمور والمجالات هي مسؤولية من اختار التراجع والهروب ممن يصلح لهذه الأشياء وهو في موقعها، أولا وقبل كل شيء.
ونصيحتي -ولست أهلا للنصح- لكل العلماء الصادقين في هذا البلد أنْ يخْرُجُوا للناس والواقع وألاَّ يبقَوْا طوال حياتهم يقبعون خلف الجدران. فإنَّ الكلمة تغذِّيها المواقف الصَّعبة ويرويها الصدق والثبات ويُكسبها المصداقية والحياة في قلوب الناس.
ولست في حاجة إلى التذكير بدور العلماء ومواقفهم وبصماتهم في التاريخ الإسلامي وعلى رأسهم الأئمة الأربعة الذين تعرضوا جميعهم للابتلاءات والمحن ودَفَعُوا الضريبة على آرائهم وأفكارهم نسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في ميزان حسناتهم وأن يوفق علماء بلدنا الصادقين إلى الاقتداء بهم والتأسِّي بسيَّرهم ومواقفهم.