لهويو لحسن
1- حتمية الابتلاء :
إن المتأمل في تاريخ حركة الأنبياء والرسل (بما فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم) وحركة المجددين ودعاة التغيير والبناء يَسْتنْتِجُ أن الإبتلاء سنة ربانية ثابتة، جعلها الله عز وجل وسيلة لتزكية صف أهل الحق وتقويته وتدمير صف أهل الباطل وإضعافه >كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الحَقَّ والبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ<-الرعد : 17-، كما جعلها الله تعالى معياراً لتخليص جبهة الحق من غير أهل الحق.
وهكذا فإقامة الدين في الأرض اليوم لابد لها من “ضريبة” لتَرقية الدعاة المخلصين وتخلية الصف الإسلامي ممَّن يسَوِّلُ له نفسه المكر بالدعوة والنيل منها، يقول الحق سبحانه وتعالى : >أَلَمِّ، أًحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُواآمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ، ولَقَدْ فَتَنَّا الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ<-العنكبوت : 1،2-.
ويختلف نوع الإبتلاء الذي تُمتحَنُ به الدعوة الاسلامية : فقد يكون إنتصاراً مؤقتاً يغري البعض، أو مؤامرة خارجية، أو مشاكل داخلية، أو ضعْفاً في الأداء ونقصاً في العطاء… فالإبتلاء على كل حال نِعمة ينبغي أن يُعد لها الرجال الأقوياء الأمناء.
ولا يحسبن الذين ينشدون المستقبل الإسلامي ويتلهفون للعودة الحضارية أن طريقهم مفروش بالورود، لا منعرجات فيه ولا عقبات، بل هو طريق صَعْبٌ لا يَعْبره إلا السائق الماهر والقائد الحكيم.
2- نبد الفكر الاحتجاجي والمواقف الانفعالية :
فالحركة الإسلامية الراشدة لا ينبغي أن تكون حركة احتجاجية (انفعالية) تستفز بضغط الواقع، وتستجيب لتحرشات الأعداء الذين يريدون تحريفها عن طريق البناء لعزلها عن المجتمع، تمهيدا لإضعافها وإقبارها أو تُستدرج إلى معارك هامشية هي في غنى عنها، بل لابد أن تكون حركة مرحلية تراعي ضابطي الواقعية والمرونة وتقيس الأمور بميزان : المصالح-المفاسد] وتصنع الأحداث والأفعال حسب إرادتها وقناعاتها هي لا رداً واستجابة لإرادة الماكرين
كما ينبغي للحركة الراشدة أن تستحضر الصبر كقيمة حضارية (وليس كسلوك أخلاقي فردي فقط) في ضبط علاقاتها وتوجيه مسارها الصحيح، فهي لا تخوض صراعا بطوليا يقوم على مجرد المواقف الظرفية المعلنة أو درجة وشدة الحُكْم على الآخر، بل تخوض صراعا حضاريا ينبني على قوة التغيير الواقعي وحجم العمل الإيجابي الذي تنجزه، والعطاء الاجتماعي الذي تقدمه. وبالتالي فإن جهادها الأكبر، هو جهاد ميداني (واقعي) يحكمه منهج علمي وعملي ويُراعى فيه فقه الأولويات والموازنات وليس جهاداً مثالياً، تحكمه العاطفة وثقافة الحماس والمزايدات.
إن واقعنا الحالي يحتاج إلى دعوة تُضمِّد الجراح ولا تُعَمِّقُ الجراح (لا يعني ذلك السكوت عن الباطل أو تكريسه مطلقا)، لا يضيق صدرها ولا ينتهي أملها مهما ساد الباطل وانتشر ، ففي الظلام الحالك تشتعل الأنوار الساطعة. تلك الدعوة التفاؤلية (المستقبلية) التي ترى في الواقع الفاسد رباطاً للموحدين، وموقعا للصدع بالحق، وفي البعيد عنها مناصراً ومُعيناً لها في المستقبل. فكم من عنيد للدعوة صار يدفعها بجهاده المستميت وعطائه المستفيض؟!.
3- النفس الطويل وعدم الاستعجال :
فمن الآفات التي قد تعصف بالمشروع الإسلامي الإندفاعُ والتحمُّسُ لقطف الثمار قبل نضجها، والإنبهار بالمنجزات والمكتسبات. لذلك كان التحلي بالنّفس الطويل أمراً ضروريّاً حتى لا يرهقنا طريق البناء الطويل، أو نتوهم اليأس، فذلك خلق لا ينسجم مع طبيعة هذا الدين، فالمسلم يستبشر بقرب النصر كلما رأى أنه يتحمل مزيداً من العراقيل، ويواجه مزيداً من الصعوبات سعياً لتحقيق غايته النبيلة.
ولنا في سيرة المصطفي صلى الله عليه وسلم إسوة حسنة في التحلي بالنفس الطويل ونبذ الإستعجال السلبي، ولا أدل على ذلك من حديثه لما جاءه خباب بن الأرت رضي الله عنه يشكو إليه صلى الله عليه وسلم ما يلاقيه هو وباقي الأصحاب ويطلب منه الدعاء للمسلمين بالنصر فقال : >قد كان مَنْ قبلكم يُؤخذ الرجُلُ فيُحْفَرُ له في الأرض فيُجْعَلُ فيها، ثم يُوتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيُجْعَل نصفين، ويمشط بأمشاط من الحديد مادون لحْمه وعظْمِه ما يَصُدُّه ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ اللهُ هذا الأمر حتى يسِير الراكِبُ من صنعاءَ الى حضْرَ مَوْت لا يخاف إلا الله والذئب على غَنَمِه، ولكنكم تستعجلون< رواه البخاري رياض الصالحين 31.
ففي التأني واحتمال مشقة السفر وطوله السلامةُ والوصولُ (التمكين)، وفي السرعة والاستعجال الندامة والخسران.
4- اتقاء الفتن الداخلية مقدم على جلب المنفعة الإسلامية :
بل إن المصلحة الإسلامية تقتضي الإحتياط من الوقوع في الفتن الداخلية والتطاحن بين أبناء الجلدة الواحدة، لأن ذلك من عوامل الفشل والتراجع يقول الله عز وجل : >ولا تنازعوا فتفشلوا وتذْهب ريحُكم<-الأنفال-.
وقد كانت الدعوة إلى اتقاء الفتن الداخلية من بين الوصايا التي تضمنتها خطبة حجة الوداع، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : >… أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا…<، وإن كان حالنا يعكس تقصيرنا في احترام تلك الوصية للأسف، حيث يتزايد سفك الدماء، وتنفيذ الإعدامات في كثير من البلدان الإسلامية بغير حق، ويتفشى الإقتتال والتطاحن في كثير من الجهات الأكثر حاجة للأمن والإستقرار.
وتعالوا بنا نعِشْ لحظةً وجيزة مع السيرة النبوية، لعلنا نستنبط درسا يُنيرُ لنا الطريق ويوضح لنا المنهج النبوي لمنع الفتن وترصيص الجبهة الداخلية :
فعندما كان المسلمون عائدين من غزوة تبوك التي قذف الله فيها الرعب والفزع في نفوس جيوش الروم، تآمر خَمْسَةٌ من المنافقين بعدما تَلَثَّمُوا >وقد كانوا من قافلة المجاهدين< على الفتك بالرسول صلى الله عليه وسلم وأن يطرحوه من رأس عقبة في الطريق، غير أن مؤامرتهم لم يكتب لها النجاح، بل إن الله عز وجل أَخْبَرَ حبيبَهُ المصطفى صلى الله عليه وسلم بِخَبَرِهم وأسمائهم فقال لحذيفة بن اليمان -الذي كان يسوق ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم- >هل عرفت هؤلاء القوم؟< فأجابه بأنه ما عرف إلا رواحلهم في ظلمة الليل حين غشيهم فأخبره صلى الله عليه وسلم بنيتهم الفاشلة وسَمَّاهُمْ له، ولكنه استكتمه ذلك. فقال له حذيفة بن اليمان : أفلا تأمر بقتلهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام :
>أَكْرَهُ أن يَتَحَدَّثَ الناسُ أن محمداً يقتُلُ أصْحَابُهُ<-أورد هذه القصة سيد قطب في تفسيره سورة التوبة وهي موجودة في بعض كتب السيرة النبوية-.
فلاَحِظْ كيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان أشد حرصاً -في دعوته- على بيضة الإسلام والمسلمين، لهذا لم يرغب في التشهير، ومحاربة أولئك المنافقين المتسترين في الصف الإسلامي، لأنه كان يخشى تصدُّعُ الجبهة الداخلية، ونَشْرَ الفتن والبلبلة داخلها.
لذلك فالحركة الراشدة مطالبة بحمل راية الأمن والإستقرار : فلا تصطاد في وَحَلِ النزاعات الداخلية، والفتن الناسفة، بل تحرص (ما استطاعت إلى ذلك سبيلا) على عدم الإستدراج لِدائرة التآكل الذاتي الذي يَقْضِي على الظالم والمظلوم. ولا تُغَدِّي جُذُورَ الرُّعْب وعدم الاستقرار، بل تُضَاعف جهادها من أجل زرع بُذُورِ الأمن والاستقرار، وتَدْعِيمِها في المجتمعات المستضعفة، ومن أجل إعادة الأمل للنفوس المرعوبة والمضطهدة، وللشعوب المنهَكَة والمدمَّرة.
5- اتقاء مكر الأعداء ومخططاتهم الناسفة :
فإذا كانت الحركة الإسلامية في مراحل معينة تخوض معركة داخلية شبة مغلقة بسبب الوضعية الدولية آنذاك فينبغي أن يتسع مِنْظَارُها اليوم في تقديرها لجبهة الخصوم والأعداء وأن تراعي في خُططها وبرامجها ميزان القوى العالمي، والواقع الدولي الراهن المحيط بها. وبالتالي أصبح من الضروري :
أ- العمل على مراعاة حجم التكالب الدولي على القوى الإسلامية وخطورة المؤامرة الأجنبية على المشروع الإسلامي لتحديد الخطوات وضبط العلاقات.
ب- العمل على التقليل من خطورة الإحتكاكات الداخلية بل العمل على تحويل كل القوى الداخلية إلى عنصر من عناصر القوة الذاتية.
6- ترصيص الجبهة الإسلامية وجَمْعُ قوة الحق قبل مجابهة قوة الباطل :
حَتَّى يتجَسَّدُ الإحساس (الشعوري والعملي) بالعزة (والتفوق) على المستكبرين، والذلة على المؤمنين كمعيار للجبهة الإسلامية القادرةعلى تحقيق الريادة والإنتصار المنشود >محمد رَسُولُ الله والذين معَهُ أشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ<-سورة الفتح-.
فمواجهة قوة الباطل وإنقاذُ المجتمع من الفساد يَقْتَضِيَانِ تجاوز واقع التعددية السلبية والإختلاف المذموم وذلك بالسعي لتحقيق :
أ- الوحدة الشعورية : التي يَمتزج فيها الأفراد برابطة الأخوة الإسلامية والإحساس الصادق بالوجود في خندق واحد ضد الباطل.
إن هذه الوحدة هي التي تُلغي عقيدة الحب في الجماعة والبغض في الجماعة لصالح عقيدة الحب في الله والبغض في الله وتُوَلِّدُ القناعة الراسخة بضرورة ضم القريب (أو الانضمام إليه) وتقريب البعيد (أو الإقتراب منه)..
ب- الوحدة التصورية : لا أقصد بذلك إلغاء الإختلافات والخصوصيات وتحقيق التفكير النمطي، بل أقصد بذلك العمل عى تحقيق إجماع حول منطلقات البناء التي ينبغي أن تنْشَدَّ إليها أحكامُ وأفكارُ وممارساتُ الجميع، وحَوْلَ المبادئ التي تُشَكِّلُ حدوداً لاَ يمْكِنُ تَجَاوزها، وحول الأهداف والمقاصد الثابتة، والمراحل والخطوات، وضوابط الوسائل المتغيرة بتغير الزمان والمكان والأشخاص والأحوال…
جـ- الوحدة التنظيمية : وأقصد بذلك العمل على تكريس الإطار التنظيمي الذي سَيُلغِي عقدة (النحن والآخرين). ويُجَسِّدُ (حقاً) العمل الإسلامي المتكامل، المتنوع والمثْمر.
وتَجْدُرُ الإشارة إلى أن التفريط في الوحدة (كمَطْلَبْ شَرْعِي ووَاقِعِي) وتغْيِيب التَّفْكِير الجمعي لِصَالِحِ الحزبيَّة الضيقة يؤديان إلى تغيير (وعكس) المعيار المذكور حَيْثُ يَسُودُ الإحساس بالذلة على المستكبرين والعزة (أو التفوق) على المؤمنين وهذه آفة عظمى لانصر ولا تمكين معها.