تأليف : د. أحمد الريسوني
تقديم : ذ. عبد العزيز انميرات
إذا كانت الحركات الاسلامية راهنا تجتاز واحدة من أهم وأخطر المنعطفات الصعبة وهي تعمل على تأسيس صحوة اسلامية راشدة قادرة على امتلاك آليات الامكان السياسي والحضاري لمواجهة غزو حضاري يحصد الغث والسمين، فإن من أهم النقط التي تحتاج الى المزيد من التحليل بداخل هذه الحركات، نقطتا التعدد والاختلاف. فالدعوة الى الاسلام واعادة تجديد حركية التدين في الأمة بعدما غزت قلوب أغلبنا شهوات المادية والوثنية المعاصرة، تحتاج الى الاهتداء الى المنهاج السليم والقويم الذي بامكانه ملامسة سبل معالجة الخلل وتقديم الحل المناسب في الوقت المناسب. الشيء الذي يدل على أن هناك مجموعة من الأولويات والأدبيات التي ينبغي استحضارها ونحن نتحدث عن امكانية تقديم تقويم شامل لواقع الدعوة الاسلامية ولواقع الحركات الاسلامية المعاصرة وبالتالي امكانية وضع تصور شمولي للدعوة ومراحلها. فالحاجة ماسة اليوم لتقديم تقويم شمولي ومتتالي لواقع الحركة الاسلامية في ظل الظروف الراهنة التي يحكمها خيار (منطق القوة) وبالتالي في ظل توجه عالمي خطير ينعث كل ما يحمل سمة (الاسلامية) بالتطرف والارهابية والظلامية والرجعية. ذلك أن السؤال الملح الذي ينبغي أن يضعه كل واحد منا هو : ما هي أدبيات تجاوز مرحلة الاختلاف المذموم بين دعاة الدعوة الاسلامية، حتى تكون جهودهم خالصة لله من جهة، وقادرة على مواجهة الزحف الاستعماري المتمثل في الفرونكوفونية والانگلوسكسونية وأداء واجب الدعوة من جهة ثانية؟ وبعبارة أخرى : اذا كنا نتفق في المنطلقات العقيدية فلماذا لا تقترب وجهات نظرنا في التعامل مع قضية الدعوة؟.
من زخم مثل هذه الأسئلة، وفي ظل هذا الواقع عملت (الجمعية الاسلامية) على اصدار ثلاثة كتب قيمة من حيث مضمون الخطاب ومنهجية العرض. فبعد كتاب (الدعوة الاسلامية : لماذا؟)، والذي انصب اهتمامه على تبصير الدعاة بأولويات ومراحل الدعوة، وبعد كتاب (نحو تربية اسلامية)، والذي انصب على نقطة الانطلاق الفعلي للدعوة والاصلاح، وهي البناء الاسلامي للعنصر البشري، والصياغة الاسلامية للفرد المسلم بكل مكونات كيانه الروحية والفكرية والنفسية والسلوكية، بعد هذا الكتاب وذاك، أصدرت الجمعية كتابها الثالث للدكتور (احمد الريسوني) (التعدد التنظيمي للحركة الاسلامية : ماله وما عليه) اجابة عن مجموعة من الأسئلة والقضايا التي تثيرها الدعوة الاسلامية. ذلك أن التعدد التنظيمي للحركة الاسلامية، وكما يقول الأمين العام للجمعية (عبد الناصر التجاني)، بما يثيره من خلافات ونقاشات ونزاعات، نظرية وميدانية يعد واحدة من أعوص القضايا التي تواجه الحركة الاسلامية المعاصرة، سواء على الصعيد القطري، أو على الصعيد الاسلامي العام. لذا نرى أن هذا الكتاب جاء في أوانه بعدما دعت الحاجة إليه، راجين أن ينظر إليه من الجانب العلمي والايجابي باعتباره خطوة في الترشيد والاصلاح والبناء، ونوعا من التواصي بالحق والتقويم الذاتي للحركة الاسلامية، وقصد تحرير العمل الاسلامي من بعض ما يعانيه من معيقات تتأخر به عن اهدافه، وقد تبعده أو تحرفه عن صراطه السوي (ص 3-4).
إن هذا الكتاب القيم، مساهمة واعية في ترشيد البناء المنهاجي للحركة الاسلامية وتصحيح مجموعة من الهفوات وتقويم خيارات طالما دفعت بأبناء الحركة الاسلامية الى الاختلاف المذموم والتفرق والصراع، وبالتالي احياء وعي الأمة والدعوة الى استيعاب أدبيات المنهج النبوي في الدعوة الى الله وتمثل منهج السلف الصالح الذي أثبت من خلاله السابقون قدرتهم على تحويل مجرى الحياة الاجتماعية والسياسية الى ما يجعل من هذه الأمة خير أمة أخرجت الى الناس.
يقول الدكتور احمد الريسوني في مقدمة كتابه : “مسألة التعدد التنظيمي للحركة الاسلامية إنما هي جزء من مسألة الاختلاف عموما، والاختلاف بين المسلمين خصوصا. فالاختلاف التنظيمي الحركي هو وجه “متطور” من وجوه الاختلاف بين الناس، اختلافهم في تفكيرهم وتدبيرهم وسلوكهم وتمذهبهم… بل إن الانتماء التنظيمي اليوم هو نوع من التمذهب. ولهذا فالكتابة في موضوع التعدد التنظيمي للحركات الاصلاحية الاسلامية تستدعي التطرق حتما الى بعض “مسائل الخلاف”.
لقد قسم الدكتور احمد الريسوني كتابه هذا الى مجموعة من المباحث وهي : (1) الخلاف واقع لا يرتفع (2) الخلاف مقرر شرعاً (3) الاختلاف المشروع والاختلاف الممنوع، (4) الاختلاف والتعدد داخل الحركة الاسلامية، (5) الآثار السلبية للتعدد، (6) الأسباب والعلاج.
في المبحث الأول (الخلافة واقع لا يرتفع) بين الدكتور احمد الريسوني واقعية الخلاف بين الناس، كما أن اختلافهم ليس قدراً سلطه الله عليهم وابتلاهم به، بل هو جزء من طبيعتهم ولازم من لوازمها، فهو جزء من قدرهم العام الذي هو كونهم مخلوقين قاصرين يجهلون أكثر مما يعلمون ويعجزون أكثر مما يقدرون ويخطئون ويصيبون. وقد بين المؤلف أن الاختلاف الخِلْقِي هو أحد المنابع الاساسية للاختلاف الكسبي، ومادام هذا المنبع لا سبيل الى إزالته، فلا سبيل الى إزالة الخلاف رأساً واستئصاله كلية، وستظل خلافات لا حصر لها تتخلل حياة الناس وعلاقتهم، ولذلك لابد لنا، يقول د. الريسوني من المعرفة بهذا الواقع والنظر في أحسن السبل للتعامل معه.
وعن موضوع (الخلاف مقرر شرعاً) دَلَّلَ الدكتور احمد الريسوني على شرعية الاختلاف من خلال استقراء موجز للقرآن والسنة، أوضح من خلاله أنه اذا كانت الشريعة هي شريعة الفطرة، ومادام الاختلاف بين الناس ترجع بعض أسبابه الى عوامل مخلوقة فيهم ولازمة لهم، فلابد أن تراعي الشريعة مسألة الاختلاف، حيث التقرير لصور عديدة منه ووضع الحدود والضوابط له. وهو ما جعل القرآن متضمنا لحالات من الاختلاف المشروع كما قصت علينا السنة بدورها مثل هذه الحالات، والتي وقعت بين الأنبياء والملائكة، الذين تدل أفعالهم على الإباحة والمشروعية.
في المبحث الثالث (الاختلاف المشروع، والاختلاف الممنوع) بين المؤلف أنه إذا كان الاختلاف مقرراً في الشرع ومسلما به، فإن هذا لا يعني أن كل خلاف مشروع، وأن باب الاختلاف مفتوح على مصراعيه بلا حدود ولاقيود. وقد صنف الدكتور الريسوني أنواع الاختلاف الممنوع في ثلاثة، وهي : الاختلاف في أصول المعتقدات والاختلاف في المرجعيات والاختلاف المفضي الى التفرق والتدابر.
المبحث الرابع (الاختلاف والتعدد داخل الحركة الاسلامية)، وهو أهم مبحث في هذا الكتاب بل والمقصود في هذا البحث، حاول من خلاله المؤلف سرد بعض صور وأنواع الاختلافات التي تسود صفوف الحركة الاسلامية، والتي يعكسها -أو يينتجها- تعددها التنظيمي مع تبيان آثارها وأحكامها. وقد حدد الدكتور الريسوني أهم صور هذا الاختلاف في ثلاث صور، وهي : (الاختلاف مع الائتلاف)، (التعدد مع الانزال) و(التعدد مع التعادي والصراع) وهو أسوأ حالات التعدد والذي قد يؤدي الى التشتت والاقتتال، كما في حالة (أفغانستان).
وعن (الآثار السلية للتعدد)، بين المؤلف أن التعدد التنظيمي داخل المجتمع الاسلامي وداخل الحركة الاسلامية ليس سيئا في حد ذاته، بل قد يكون منتجا وفعالا، أو على الأقل لاضرر فيه. لكن أضرار التعدد ومفاسده تبدأ مع الصورة الثانية وتشتد وتستفحل مع الصورة الثالثة. وقد صنف الآثار السلبية للتعدد التنظيمي في النقط التالية : 1-(فقدان صفة الوحدة الاسلامية) 2-(تعميق الفرقة داخل جسم الأمة) 3-(تبديد الطاقات) 4-(جعجعة بلا طحين) 5-(فتنة الناس وتنفيرهم).
المبحث الأخير من هذا البحث، خصصه الدكتور احمد الريسوني للحديث عن (الأسباب والعلاج)، فبعد أن عرض في المبحث السابق أهم الأضرار التي جنتها الحركة الاسلامية من جراء أشكال سيئة من التعدد والتفرق الذي تعرفه من حين لآخر ومن بلد لآخر، عمل في هذا المبحث على النظر في الأسباب التي تفضي الى تلك النتائج الوخيمة، متناولا في نفس الوقت الوجه الآخر المطلوب. وقد انتهى نظر المؤلف الى تحديد تلك الأسباب في سبع آفات جامعة، قَلَّ ما تجتمع كلها في حالة واحدة، ولكنها قلما وجدت واحدة منها واستمرت الا تولد عنها غيرها، وهي : (القطيعة بين الجماعات)، (تفشي الأهواء)، (العصبيات) (فقدان النظر العلمي) (فقدان القدرة على الإنصاف) (فقدان القابلية للنقد) وأخيراً (الاستجابة للتحرش).
إن هذا الكتاب القيم معالجة لاحدى القضايا الحساسة والشائكة التي تعترض سبيل العاملين في حقل الدعوة الاسلامية وفي صفوف الحركة الاسلامية : (قضية الاختلاف والتعدد في الهيئات والتنظيمات والاجتهادات). إنه مساهمة واعية براهنية الواقع الاسلامي الذي يحتاج الى المزيد من الترشيد والتوعية والتوجيه، عسى أن نكون قادرين على تصحيح المسار، ولن يتأتى لنا ذلك مالم نمتلك (فقه الاختلاف).