أحمد الفيلالي
لبنان بلد صغير من حيث المساحة (10 آلاف كلم2 = 1.4% من مساحة المغرب) ومن حيث السكان (4 ملايين نسمة = 15% من سكان المغرب)، ومنقسم إلى طوائف دينية ومذهبية وتيارات سياسية مختلفة : شيعة؛ سنة؛ دروز؛ مراونة؛ كاثوليك؛ أرثوذكس؛ بروتستانت؛ أرمن؛ الروم… علمانيون وإسلاميون وصوفية… ولشدة هذا الانقسام دخل لبنان في القاموس السياسي، إذ أصبح يطلق مصطلح “اللبننة” (البلقنة كذلك نسبة إلى دول البلقان) على كثرة الصراعات وتنوعها في البلد الواحد.
ولقد استطاع لبنان أن يستمر كدولة وكشعب بالرغم، من تشتت سكانه بين مغتربين ومهجّرين وعملاء ومقاومين.. بالإضافة إلى وجود أكثر من 300 ألف لاجئ فلسطيني يقطنون في المخيمات، وبالرغم من تدهور الاقتصاد الوطني الذي كان يعتمد أساسا على السياحة وعلى صناعة الكتاب، فأصبح مصدره الرئيسي الآن هو عائدات المستغربين، ناهيك عن المشاكل الاجتماعية الكبيرة التي خلفتها الحروب الأهلية والحروب التي شنتها إسرائيل على لبنان. كما أن المديونية الخارجية بلغت مليار و356 مليون دولار (سنة 1993)، والعملة انخفضت بمئات المرات عما كانت عليه في السابق..
نظرا لهذه المعطيات وغَيرها، أصبحت الأراضي اللبنانية وخصوصا الجنوبية منها مستباحة للغارات الإسرائيلية، كلما أرادت إسرائيل ذلك. والغارات الأخيرة كانت متميزة عن سابقاتها، لأنها كانت تعمل على تحقيق أهداف جديدة -بالإضافة إلى الأهداف القديمة-، ويمكن اختصار أهـداف الغارات الأخيرة فيما يلي:
1- ضرب قواعد ومقرات حزب الله والمقاومة الإسلامية، لضمان أمن مستوطنات شمال فلسطين، وللإبقاء على الاحتلال في الشريط الحدودي الذي تسميه إسرائيل بالشريط الأمني، لأنه يحفظ أمن شمالها ويمدها بالمياه اللازمة، بالإضافة إلى غنى هذا الشريط بإمكانات مهمة للاستغلال الفلاحي وللتنمية السياحية.
2- إرغام الدولة والتيارات السياسية والطوائف الدينية وعامة الشعب، على تصفية عمل المقاومة، وذلك بتجريدها من الأسلحة، ومنعها من مهاجمة اليهود بحجة أن رد الفعل الإسرائيلي يمس عموم الشعب اللبناني وليس فقط قوات المقاومة والأهالي المتعاونين معها. وهذا ما سيؤدي إلى إغراق لبنان في خندق الصراع مع الحركة الإسلامية، مما سيؤدي إلى حرب أهلية أخرى ستكون ما بين الحركة الإسلامية (الشيعية والسنية)، من جهة، والدولة والتيارات الإسلامية العلمانية والطوائف المسيحية من جهة ثانية.
3- إضعاف الدولة والشعب اللبنانيين، وذلك من خلال تحطيم القوات الإسرائيلية لبنيتها التحتية وضرب اقتصادها الوطني وإغراق البلاد في مشاكل البناء والإصلاح ومشاكل المهجّرين والعاطلين… ومن خلال تشتيت وحدته وتضامنه وتماسكه عن طريق الصراع مع الحركة الإسلامية ، الذي لا محالة سيؤدي إلى إحياء الصراع الطائفي الديني والمذهبي.
4- دفع عجلة الاستسلام والتطبيع، وذلك بتوقيع اتفاق سلام بين لبنان وإسرائيل، مما سيرغم سوريا على توقيعه كذلك وبشروط إسرائيلية، لأن سوريا ستكون قد فقدت ورقة ضغطها المتمثلة في دعمها للمقاومة وللمعارضة. وبتوقيع سوريا على هذا الاتفاق الملعون ستتبعها كل الدول العربية الأخرى بشكل سريع وقد يكون بشكل جماعي.
5- القضاء على منافس إسرائيل في السوق الشرق أوسطية، ذلك لأن أهم قطاع تملكه إسرائيل وتريد أن تغزو به السوق العربية هو قطاع الخدمات، والقطاع نفسه نجده وبنفس المستوى تقريبا في لبنان، لذلك فإن إغراق لبنان في الحرب الدائمة سيمكن إسرائيل من الانفراد بالسوق العربية.
6- توطين الفلسطينيين من جديد في القرى والمدن اللبنانية، ذلك لأن إسرائيل تخطط للقيام بحملة تطهير عرقي كبيرة في الأراضي المحتلة منذ 1948، ستمس حوالي مليون ونصف مليون عربي وذلك بطردهم خارج هذه الأراضي. فلتفادي وقوع أية عمليات استشهادية أو فدائية في المستقبل لابد من القضاء على أي اتصال يومي بين اليهود والعرب، وذلك لن يتم إلا بالاستغناء عن العمال القادمين من الضفة الغربية وقطاع غزة وعن العرب المقيمين داخل “إسرائيل”، كما أن الإمكانات المائية والثروات الاقتصادية لا تسمح باستقبال مهاجرين جدد أو أن يزداد الشعب اليهودي بزيادة طبيعية كبيرة. وبما أن عدد فلسطينيي أراضي 48 من الكثرة التي لا تسمح بتوطينهم في القطاع والضفة، لضيق المساحة وارتفاع الكثافة السكانية بهما، فإن إسرائيل تخطط لتوزيعهم على كل من الأردن ولبنان وسوريا، وربما العراق أيضا. وقد بدأت بالفعل تستغني عن العمالة الفلسطينية وتعوضها بالعمالة الآسيوية.
ولكن هذه الغارات -ولله الحمد- لم تحقق هذه الأهداف الخبيثة للعدو، بل بالعكس عملت على كشف همجية وعدوانية دولة الكيان، وأصبحنا نسمع عن الهولوكوست اليهودي عوض الهولوكوست النازي، بل إن بعض أحرار فرنسا كروجي جارودي وبابا الكنيسة الكاثوليكية الفرنسية كتبوا مقالات وكتبا وصرحوا لمختلف وسائل الإعلام بأن “الهولوكوست النازي” المتمثل في تصفية الجنس اليهودي لا أساس له من الصحة، أو على الأقل كان أقل بكثير مما يدعيه اليهود، بعدما أثبتت ذلك العديد من الدراسات العلمية، وأن الهولوكوست الحقيقي هو ما يقع في فلسطين ولبنان. ومن جهة أخرى كشفت هذه الغارات عن لبنان جديد، لبنان موحّد متضامن وواع بالأغراض الخبيثة لإسرائيل. فما أن انطلقت هذه الغارات حتى تحرّكت كل الأطراف والطوائف، حكومة وشعبا، بدعم المقاومة دبلوماسيا وسياسيا وماديا، وباحتضان المهجّرين الذين بلغ تعدادهم أكثر من 400 ألف… بل إن هذه الغارات زادت من هذه الوحدة الوطنية وَقَوَّتْهَا، ولقد كان لسان حال كل اللبنانيين أن المقاومة حركة مشروعة حتى استقلال الجنوب واستعادته، وأن المقاومين مواطنون شرفَاء وليسوا أشباحا غريبة عن المجتمع اللبناني، بل إنهم يشكلون خط الدفاع الوطني الأول، وأن حل الأزمة لا يأتي من دمشق أو طهران ولكن من بيروت، ولن تحل الأزمة إلا بتنفيذ القرار الأممي رقم 425 المتعلق بالانسحاب الكامل لإسرائيل من جنوب لبنان.
ولكنّ الذي يحز في النفس هو أنه في الوقت الذي تحصد فيه القنابل الإسرائيلية عشرات الأرواح في لبنان وتهدم آلاف المنازل وتحطم الطرقات ومحطات الكهرباء والقناطر، نجد في المقابل وقريبا من أهداف الغارات، جماعة ادعت تمثيلها للشعب الفلسطيني تقضي على أي أساس دستوري أو قانوني لمقاومة الاحتلال، وذلك من خلال تعديل الميثاق الوطني، مع العلم أن ما تعرض له لبنان وما يزال هو بسبب فلسطين، والفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية.