تقديم : يعتبر بناء الشخصية الرسالية مطلباً ضروريا لتحقيق حتمية العودة الإسلامية وإنجاز التغيير الحضاري المنشود، ففي غياب الإنسان النموذج الواعي بقضيته وأمانته المدرك للتحديات التي تواجه أمته والعالم بنصيبه من المسؤولية لا يمكن أن يسلم الله لنا مفاتيح القيادة والشهادة على العالم يقول الله عز وجل : «إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ»-الرعد : 11- فكيف يمكن للشخصية الكَلِّية، العاجزة التي تُفسد إن أفسد الناس وتُصْلِح إن أصلح الناس أن تحمل مشروع إقامة الدين؟! وكيف يمكن للشخصية السلبية، التي لا تدرك رسالتها في الحياة أن تحدثَ تغييراً في غيرها، بل حتى في ذاتها؟! من هذا المنطلق فإن الحديث عن المواصفات التي ينبغي أن تتوفر في حاملي الفكرة الإسلامية ودعاة التجديد والبناء أمراً مشروعاً كما أن التذكير بهذه المواصفات تُحَتِّمه ضرورة التحذير من بعض الآفات التربوية والدعوية التي أصبحت تتفشى في الصف الإسلامي : كالفتور، والسلبِّية والحزبية... لذا اخترت هذا الموضوع لَعَلَّهُ يُساهم في تصحيح تلك الآفات ويضع لبنة أخرى لترشيد مسيرة العمل الإسلامي. أتحدث فيه عن الخصائص التالية : 1- الربانية. 2- الجهاد المحتسب. 3- القوة والأمانة. 4- العقلية التأصيلية المقاصدية. 5- العقلية النقدية الحوارية. ولسنا ندعي في هذا الموضوع الإحاطة الشاملة بهذه الخصائص والمعالجة الكافية لجوانبها ولكن حسبنا أن نساهم في التحسيس بأهميتها من خلال بعض الأفكار والخواطر التي ربما ستجد من يزكيها وينتقدها والله ولي التوفيق. الخاصية الأولى : الربانية من بين المعاني التي يمكن أن تفيدها : الإرتباط بالله عز وجل والعمل له وابتغاء مرضاته سبحانه وتعالى. وللربانية بهذا المعنى ثلاثة أوجه مترابطة ومتكاملة وهي : أولاً : ربانية الإلتزام ونعني بها ربانية التخلق بأخلاق القرآن الكريم والإقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم كما نعني بها : التأدب مع الله عز وجل ومع الرسول صلى الله عليه وسلم ومع النفس ومع الغير. - أما التأدب مع الله عز وجل فيقتضي عبادته بما يُعبد به وبالطريقة التي ارتضاها، والخضوع له والإستسلام لأمره وقضائه يقول الله عز وجل : «ومَا أمِرُوا إِلاَّ ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء...»-البينة : 5-. كما يقتضي التأدب مع الله استحضاره في كل حال ولأي حال وعلى أي حال ومراقبته في السِّر والعلانية وهذا هو الإحسان الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عليه السلام : ما الإحسان؟ فقال : (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)-رواه البخراي-. - أما التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم فهو متمم للتأدب مع الله وشرط لصحته وصدقه فلا يكتمل إيمان العبد وإسلامه دونه ولا تصح طاعة المسلم وعبادته بإغفاله. يقول الله عز وجل : «من يطع الرسول فقد أطاع الله...»-النساء : 79-ويقول أيضا : «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله...»-الفتح : 10- ويتطلب التأدب مع الرسول صلى الله عليه وسلم محبته وإتباع سُنَّته ومحجته البيضاء يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالكٌ ومن يَعِشْ مِنْكُمْ فسيرى اختلافاً كثيراً فَعَلَيْكُمْ بما عَرَفْتُمْ من سُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشدين المهديين عَضُّوا عَلَيْهَا بالنَّوَاجِدْ»-أخرجه ابن ماجه- كما يتطلب هذا التأدب التخلق بأخلاقه الفاضلة والاستهداء بشخصيته وسيرته صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل : «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ لمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ واليَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ اللَّهَ كثيراً»-الأحزاب : 31- فالنبي هو القدوة الحسنة والمثل الأعلى في الصدق والتواضع... فقد أدبه الله فأحسن تأدبيه (أدبني ربي فأحسن تأديبي)-حديث نبوي- وشهد له بالأخلاق السامية يقول الله عز وجل : «وإنك لعلى خلق عظيم»-القلم : 4- - أما التأدب مع النفس فيقتضي تزكيتها. «قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها»-الشمس : 9 - 10- «ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم ءاياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم»-البقرة : 128- وتستوجب التزكية الإبتعاد عن كل الأمراض والآفات الذميمة كالرياء والحسد والنفاق والأنانية... والتخلق بكل الأخلاق والمكارم الحسنة كالصدق والصبر والقناعة... كما يقتضي التأدب مع النفس مجاهدتها وترويضها على الطاعة والخضوع ومحاسبتها حتى لا تغرق في المكاره والأخطاء القاتلة يقول عمر بن الخطاب (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا). أما التأدب مع الناس فمن مقتضياته ما يلي : رعاية حقوقهم يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «حقُّ المُسْلِم على المُسْلِمِ خمْسٌ : ردُّ السلام وعِيَادَةُ المريضِ واتّبَاعِ الجَنَائِزِ وإجابةُ الدَّعْوة وتشميتُ العاطس»-متفق عليه- أن يحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «مثل المومنين في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِمْ كَمَثَلِ الجَسَدِ الواحِدِ إذا اشْتَكَى منهُ عُضْوٌ تَدَاعَى له سائر الجَسَد بالسَّهَرِ والحمى»-متفق عليه- وهكذا فإن الإلتزام بالنسبة للشخصية الرسالية أمانة ومسؤولية أولا وقبل كل شيء فهو لا ينحصر في حدود الشعارات أو الصفات أو المظاهر والشكليات بل هو التزام مبدئي راسخ يقوم على أساس القناعة الثابتة واليقين الصادق اللَّذين لا تهجِسُ فيهما الهواجس واللَّذين يدفعان إلى الإعتزاز بالإنتماء للاسلام والدفاع عنه وجعله القضية المركزية في الحياة التي لا سعادة بدونها ولا أمل إلا فيها وبها. كما أنه ليس مجرد انتماء نظري يَقْتَصِرُ على الكلام ولكنه التزام واقعي (عملي) يُبرهن عليه صفاء القلب وتعلقه الدائم بالله عز وجل وتؤكده الأخلاق القرآنية الربانية يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي، ولكن ما وَقَرَ في القلب وصَدَّقَهُ العَمل...»-رواه البخاري- ويقول الله عز وجل : «يأيها الذِين آمنوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِند الله أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون»-الصف : 2 - 3-. إن ربانية الإلتزام وصفاء التربية هما اللذان يجعلان المسلم في مستوى القدوة الحسنة التي تجذبُ النفوس وتستقطب ما لا تستقطبه الشعارات والخطب والمواعظ وتغني عن كثرة الجدال والقيل والقال. وهما اللذان يعطيان الشخصية المقبولة والمحبوبة والمؤثرة في محيطها الأسري والإجتماعي يقول محمد أحمد الراشد في المسار : (إن الداعية إذا أَلْزَم نفسه بالورع كان لوَرَعِه أصداء يحدثُ تكرُّرها وترددها تحريك للناس ويوضح ذلك ما اكتشفه الزاهد يحيى بن معاذ من أنك (على قدر شغلك بالله يشتغل في أمرك الخلق)-كتاب المسار ص : 9-. وخلافاً لذلك فإن الخلل في الإلتزام والضعف في التربية يولِّدان شخصية منفِّرة إن لم تكن مدَمرة ومهدمة. فكثيراً ما جنت وتجني الدعوة الإسلامية أشواكاً وآفاتٍ من أفراد قليلي التربية والزاد الروحي والأخلاقي وإن كانوا كثيري الحركة والنشاط. جاء في إحدى كتابات الشيخ محمد الغزالي أن العمل الإسلامي يحصد الشوك من أناس قليلي الفقه، كثيري الحركة فيسيؤون أكثر مما يصلحون، وأحسب أن أهم فقه يقصده الشيخ الغزالي حفظه الله هو الفقه الذي يورثُ الخشية والمحبة. لذا فإن الرهان على رفع المستوى التربوي والروحي والأخلاقي لدعاة التغيير أمراً لا يمكن التساهل فيه أو التغاضي عنه بأي حال من الأحوال، بل قد لا أكون مغالياً إذا قلت بأن معيار النصر الحقيقي مرتبط أساساً بقوة الصلاح والتقوى، وبِمدى القرب أو البعد عن الله، وليس بالعدد أو العتاد يقول الراشد في هذا السياق : (إن تخطيطنا يجب أن لا يعتمد في انتظار النصر على حجم حشده وقوته فقط، بل أن نجعل مقدار الصلاح الذي نحوزه عاملا أساسياً، وكلما شاعت الأخلاق الإيمانية الفاضلة فينا وزادت نسبة صفاء القلب وكثر الإستغفار وتوالت التوبة كانت خطتنا أقرب إلى النصر في التصور الإسلامي وأجدر بالوصول إلى غايتها)-المسار : 8-.