وتزداد معرفة اعتبار الشرع لحقوق الانسان إذا عُلم أن التوبة في الاسلام لها ثلاثةُ شروط حين يتعلق الأمر بحق الله، أما إذا تعلق الأمر بحق الانسان، فإنه لابد من استيفائها شروطا أربعة قال العلماء : «التوبة واجبة من كل ذنب فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط : أحدها أن يقلع عن المعصية والثاني أن يندم على فعلها، والثالث أن يعزم أن لا يعود إليها أبداً فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته وإن كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فشروطها أربعة. هذه الثلاثة وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالا أو نحوه رده إليه وإن كان حد قذف ونحوه مكنه منه أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحله منها»(رياض الصالحين للإمام النووي ص : 18). ومن سمات حقوق الانسان الشرعية أنها للناس قاطبةً وليست للمسلمين خاصة. فالاسلام جاء للعالمين، وارتضاه الله منهجا للبشرية جمعاء فأحكامه مخاطب بها العالم كله بدون تمييز بين أفراده «فحقوق الإنسان الشرعية حقوق شمولية للجنس البشري كله ولا ترتبط بجنس الفرد أو عنصره. وحين يختار الإنسان وجهة ايديولوجية معينة بإرادته ويمارس تصرفاته وفقها فإنه يحدّد لنفسه بذلك حقوقا وواجبات في المجتمع الاسلامي»(النظرية السياسية الاسلامية في حقوق الإنسان الشرعية ص : 37) ومن ثم وجدنا في المجتمع الاسلامي حقوق الذميين وحقوق المستأمنين وغير ذلك من الحقوق التي تهم غير المسلمين. ومن سمات حقوق الإنسان الشرعية أيضا وجود حق الله فيها. وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي في كتابه الموافقات في أصول الشريعة ما نصه : «ومن هنا يقول العلماء إن من التكاليف ما هو حقٌ للّه خاصة وهو راجع إلى التعبد، وما هو حق للعبد ويقولون في هذا الثاني إن فيه حقا لله، كما في قاتل العمد إذا عُفي عنه ضرب مائة وسجن عاما وفي القاتل غيلة إنه لا عَفْوَ فيه وفي الحدود إذا بلغت السلطان فيما سوى القصاص كالقذف والسرقة لا عفو فيه وإن عفا من له الحق». وقد رعت الشريعة الاسلامية الحقوق رعاية كبيرة وحمتها بوسائل عدة لتكون ضمانات ضداً عن أي اعتداء عليها. و«بخصوص الضمانات لمنع الاعتداء على حقوق الانسان في الاسلام يرى الدكتور فتحي عثمان أنه يمكن تلخيصها في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الملقى على عاتق الفرد والجماعة والدولة والذي يعني حراسة هؤلاء جميعا للحق في مختلف صوره ومدافعتهم للبغي في مختلف صوره»(حقوق الانسان في الاسلام للاستاذ عبد اللطيف الحاتمي، مجلة المحاماة، العدد 29، ص : 109). فبالنسبة لحماية الفرد تجد أساسها في عقيدة التوحيد بجميع مقتضياتها وفي الرضى بحكم الشريعة الربانية. هذه الحماية هي التي تجعل رقابة الإنسان وضميره حارسا على عدم تجاوز الحدود المرسومة في الشريعة. ومن ركائز هذه العقيدة الإيمان بالآخرة، يومُ الجزاء العادل على كل تفريط في الحقوق أو استهتار بها. واستشعار المسلم لشدة هذا اليوم وهول يجعله يأتمر بأوامر الشرع وينتهي بنواهيه طيعة بها نفسه. وكلنا يستشعر هذه الرقابة ودورها في نهار رمضان. كيف لا يجرؤ المسلم -وهو في بيته والأبواب مغلقة، وفي البيت ما لذّ وطاب من صنوف الطعام والشراب- على انتهاك حرمة الصيام. أما حماية المجتمع فتتأتى من التضامن والتكافل الذي يتنادى به المجتمع الاسلامي، إذ كما يقول الرسول عليه الصلاة والسلام : «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» وهذا المجتمع سمة أفراده وخلتهم أنهم ينتصرون للحق و«الذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون». فبذلك ينالون الخيرية بدليل قوله تعالى : «كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله» والانتصار للحق ليس وظيفة عادية تتطلبها مقتضيات السلوك الطبيعي للمجتمع، بل هو واجب مؤكد لأن الظلم وهو التعدي ومجاوزة الحق، مؤذنٌ بهلاك المجتمع كلِه صالحه وفاسده لقول الله تبارك وتعالى «واتقوا فتنة لا تصيبن الذي ظلموا منكم خاصة». وهناك أيضا حماية الدولة ويمكن تقسيمها إلى حماية داخلية وخارجية. فالحماية الداخلية تكون بإقامة الدولة لشرع الله كلا لاجزءا، وبإقامة الحدود، وهي عقوبات مقدّرة تحمي أهم الحقوق. فحد القصاص شرع لحماية حق الحياة وحد الحرابة لحماية حق الامن الاجتماعي وحد السرقة لحماية حق التملك وحد الزنى لحماية حق النسل، وحد القذف لحماية حق الانسان في سلامة سمعته وعرضه،وحد الشرب لحماية حق الفكر والإرادة وحماية العقل مما يغتاله من الخمر والمخدرات. كما أن من مؤسسات الدولة وأجهزتها، ما ينحصر اختصاصها أساسا في تحقيق العدالة ورفع الجَور، والانتصاف للمظلومين من الظالمين. ونخص بالذكر مؤسسة القضاء، وقضاء المظالم، وهوخاص بالنظر في تعدي الولاة على الرعية، وخطة الحسبة وإن كانت أقل شأنا من القضاء بنوعيه المشار إليهما. وقد عرّفت الحسبة بأنها أمر بالمعروف إذا ظهر تركه ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله. فعلاقتها بذلك صميمة بحقوق الناس. وزيادة على الدور الداخلي، منوط بالدولة في الإسلام دورٌ خارجي في الميدان الدولي وذلك بالتعاون مع مختلف الهيئات والمنظمات المنافحة عن الحقوق والحريات والانضمام إلى كل معاهدة او اتفاقية يكون هدفها إقرار الحقوق أو توفير ضمانات تطبيقها، وفي حلف الفضول خيرُ عبرة على أن شريعة الإسلام تنوه وتؤازر كل المبادرات التي تروم النفع والخير للناس سواء صدرت عن المسلمين أو عن غيرهم من الأمم والشعوب. وحلفُ الفضول هذا، حدث قبل الإسلام رغم ما كان يعج به المجتمع الجاهلي من تضييع للحقوق وهتك للحرم، «تحالف فيه المتحالفون وتعاقدوا ألا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو من غيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه حتى تُرد إليه مظلمته.وقد حضر هذا الحلف الرسول عليه الصلاة والسلام مع أعمامه وقال بعد أن شرّفه الله بالرسالة : «لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب لي به حمر النعم ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت»(نور اليقين في سيرة سيد المرسلين للشيخ محمد الخضري، ص : 13). ومن تلمس دور الدولة في الاسلام في حماية الحقوق إن على الصعيد الداخلي أوالخارجي يبرز بقوة واقتدار دور القضاء في حماية الناس بعضهم من بعض بل وفي حماية الناس من الدولة إذا ما هي قصرت أو اشتطت في حقهم. وصور القضاء الاسلامي لا تزال شاهدةً على العدالة الحقة والرعاية الحقة للحقوق في ظل شريعة الله. وسنورد بعضا منها. «روي أن الإمام عليا كرّم الله وجهه لما رجع من قتال معاوية وجد درعه المفقودة بيد رجل يهودي كان يسعى لبيعها. ولما أصر هذا على أن الدرع له، اختصم الاثنان أمام القاضي شريح فطلب من الإمام علي أن يثبت دعواه فأتى بخادمه قنبر وابنه الحسن شاهدين فرفض القاضي شهادة الابن لوالده. فقال علي : «سبحان الله رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته! لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» ولما أصر القاضي على موقفه طلب علي من اليهودي أن يأخذ الدرع لأنه لم يكن له شهود غير من ذكر فما كان من المدعى عليه إلا أن تأثر بهذا العدل، وباحترام علي لاستقلال القضاء فقال : أشهد أن الدرع لك، وأن دينكم هو الحق قاضي المسلمين يحكم على علي أمير المؤمنين ويرضى! أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، فسرّ علي بإسلام اليهودي ودفع إليه الدرع تبرعا، ثم أخذه ليقاتل معه في النهروان حتى استشهد. وكان القاضي شريحا يردّ تدخل الولاة في أحكامه. فقد قضى مرة بحبس رجل في السجن فعلم بذلك والي البصرة والكوفة بشر بن مروان أخو الخليفة عبد الملك بن مروان، فأرسل إلى شريح طالبا منه أن يخلي سبيل الرجل. فأجابه شريح : "السجن سجنك والبوّاب بوّابك. وأما أنا فإني رأيت عليه الحق فحبسته لذلك . ثم أبى أن يخلي سبيله"(حقوق الانسان في الاسلام للاستاذ عبد اللطيف الحاتمي، مجلة المحاماة، ص : 125 و126) وهناك نازلتان جديرتان بالتأمل لإدراك مساواة القضاء الإسلامي بالأندلس بين الناس في التقاضي دون تفرقة بين المسلمين وغيرهم وذلك بغض النظر عن حكم القاضي هل جانبه الصواب أم حالفه. وقد أوردهما الدكتور محمد عبد الوهاب خلاف في كتابه : "وثائق في أحكام قضاء أهل الذمة في الأندلس" القضية الأولى : وتتلخص وقائع هذه النازلة أن غلاما مراهقا لا دليل على بلوغه سن الحُلُم أسلم على يد القاضي بعدما امتحن رغبته الحرة في اعتناق الإسلام ثم عاد بعد أيام يريد الارتداد والعودة إلى دينه الأصلي وهو النصرانية فاستشار القاضي زمرة من الفقهاء كانت آراؤهم متناقضة واطمأن إلى رأي بعضهم لتقرير حق الغلام في الردّة دون إنزال العقاب عليه مادام مشكوك في بلوغه وعدم قدرته على إدراك المعنى العميق للدخول في الإسلام والخروج من دينه الأصلي. القضية الثانية : تطرح هذه القضية مسألة تتعلق بحضانة الصغير وقد أثيرت بمناسبة وفاة أم لصغيرتين أبوهما مسلم موجود على قيد الحياة كما أن جدتهما لأمهما وهي نصرانية لا تزال على قيد الحياة وكذلك جدتهما لأبيهما وقد رأى ابن لبابة بن سليمان ومحمد بن وليد أن الجدة النصرانية للأم أحقُ بحضانة الصغيرتين على الرغم من وجود أبيهما المسلم وجدتهما لأبيهما على قيد الحياة(حقوق الانسان في الاسلام للاستاذ عبد اللطيف الحاتمي، مجلة المحاماة، ص : 125 و126). وأخيراً فإنني لم أشأ أن استقرأ حقوق الانسان الشرعية حقا حقا كما هي مفصلة في كتب الفروع فذلك ما لا تسع له المقالة من جهة، كما أنني لم أجد إليه حاجة، خاصة بعدما نشر البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام والذي تضمن حقوقا كثيرة شخصية وسياسية واجتماعية وغيرها من جهة أخرى. كما أن وقوفي في المقالة عند محطات تاريخية أكثر من مرة ليس هروبا من الواقع المر لحقوق الانسان الذي نعيشه، أو رغبة في الاستمتاع بالصور الرائدة في الماضي وكفى. بل لأن ماضي هذه الأمة وحاضرها سلسلة حلقاتها آخذ بعضها بأعناق بعض، فالماضي موصول بالحاضر الذي يستشرف بدوره المستقبل، عكس الفِرية الكذوب التي روجها المستشرقون حين فرقوا بين ما ضينا وحاضرنا في حين كان الماضي والحاضر عندهم دوما مساراً واحداً وخطا واحداً.