يعد الاستعمار الفرنسي أخبث استعمار عرفته شعوب العالم الثالث في الوقت المعاصر، فهو استعمار استيطاني يُلحق المستعمَرَات بباريس ويجعلها عبارة عن مقاطعات كباقي مقاطعات فرنسا. ولضمان استمرارية وبقاء هذا الاستيطان عملت فرنسا على مسخ ثقافات الشعوب المستعمَرَة عن طريق القضاء على اللغات الوطنية واستبدالها باللغة الفرنسية. ولما فشل مشروع الاستيطان عن طريق استعمال القوة بسبب ثورات التحرير التي قامت في معظم المستعمَرَات، لجأت فرنسا إلى اقناع حركات التحرير الوطني بمشروع “الاتحاد الفرنسي” الذي هو عبارة عن تكتل لدول مستقلة تحت قيادتها، ولكن هذا المشروع مُني بدوره بالفشل الذريع.
وهكذا غيرت فرنسا من سياستها الاستعمارية، وذلك باعتماد الاستعمار غير المباشر والاستيطاني في نفس الوقت، ألا وهو الاستعمار الثقافي، ذلك لأن الاستعمار الاقتصادي يمكن ان يفشل بسبب قوة المنافسة الدولية، أما الاستعمار الثقافي فهو يستمر ويبقى لأن الثقافة أقوى من المال، ولأن التبعية الاقتصادية يمكن أن تتحقق عن طريق التبعية الثقافية.
لذلك زرعت فرنسا مستعمَرَاتها السابقة بالعديد من المؤسسات الثقافية والعلمية والتربوية، وأنفقت الأموال الطائلة على شكل منح ومساعدات لتثبيت اللغة الفرنسية في الإدارة والتعليم والإعلام.
ولقد ساعد انشغال الولايات المتحدة الأمريكية بالحرب الباردة على أن تبسط فرنسا سيطرتها على القارة الإفريقية، فأقامت مجموعة من الأنظمة الإفريقية التابعة لها والمكونة أساسا من خريجي المدارس والمعاهد والجامعات الفرنسية، ولتوسيع سيطرتها على القارة الإفريقية عملت على تأسيس منظمة الدول الناطقة كليا أو جزئيا باللغة الفرنسية، ولقد وصل عدد الدول الأعضاء إلى 47 دولة في المؤتمر الخامس للفرنكوفونية الذي عُقد في اكتوبر 1993.
وسنُورد في عُجالة بعض الأمثلة عن الجهود التي تبذلها فرنسا لتركيز ثقافتها في المغرب.
فبالرغم من ضعف عدد الفرنسيين الذين يقطنون بالمغرب(لا نملك معطيات دقيقة عن عدد الفرنسين الموجودين بالمغرب ولكن يكفي أن نعلم أن عدد الأجانب هو 50181 نسمة في إحصاء 1994 لكي نعرف أن حجم الفرنسيين ليس كبيرا بالمغرب)، فإننا نجد مؤسسات ثقافية وترتبوية كثيرة ومنتشرة في كل جهات البلاد خصوصا في المدن الكبرى فهناك 11 مركزا ثقافيا في 11 مدينة، كما أن مدارس البعثة وصل عددها إلى 24 مؤسسة موزعة في جل المدن المغربية الكبرى وهي على الشكل التالي : 4 مدارس ابتدائية وثانوية واحدة بالرباط، 6 مدارس ابتدائية وثانوية واحدة بالدار البيضاء، مدرستان ابتدائيتان وثانوية واحدة بمراكش، مدرسة ابتدائية وثانوية بطنجة، ومؤسسة واحدة في كل من مكناس والمحمدية ووجدة والقنيطرة وأگادير وفاس وآسفي.
هذا بالإضافة إلى أربع مؤسسات للتعاون التربوي وهي :
Psychologue Scolaire à Casa et à Rabat, et Hygiéne Scolaire à Casa et à Rabat.
وأهم الجمعيات الفرنسية الموجودة بالمغرب توجد مراكزها في مدينة الدار البيضاء ولها فروع في بعض المدن الكبرى، وعدد هذه الجمعيات خمسة وهي :
(اتحاد الفرنسيين الموجودين بالخارج) -Union des Français de l’Etranger
(الجمعية الفرنسية الخيرية)-Société Française de Bienfaisance
(جمعية أقاليم فرنسا) -Provinces de France (دار القدماء) -Maison des Anciens (دائرة الصداقة الفرنسية) -Cercle amical
أما في المجال الاقتصادي فهناك فقط مؤسسة واحدة ولكنها مهمة وهي الغرفة الفرنسية للتجارة والصناعة بالمغرب التي يوجد مقرها بالدار البيضاء، وتصدر مجلة دورية تحت اسم “Conjoncture”، يطبع منها 4000 نسخة.
ناهيك عن الدور الذي تقوم به السفارة والقنصليات التي توجد في 7 مدن كبرى، ثم الملاحق التابعة للسفارة كالبعثة الاقتصادية والمالية التي توجد في كل من الرباط والدار البيضاء ومركز التعاون الثقافي بالرباط….
ثم إن شبكة الفرنكوفونية بالمغرب لا تنحصر فقط في هذه المؤسسات الفرنسية الرسمية، ولكنها تغطي عددا كبيرا من المؤسسات المغربية التي تتلقى الرعاية والتوجيه والتمويل من طرف الحكومة أو المنظمات الفرنسية غير الحكومية، وخير مثال على ذلك إذاعة ميدي 1 والقناة التلفزية الثانية M2، ولقد قدمت مسؤولَةٌ كبيرة في وزارة الإعلام الفرنسية تصريحا جاء فيه : >إن الحكومة الفرنسية تمتلك جهازين إعلاميين : أحدهما إذاعي هو ميدي 1 وثانيهما تلفزي هو M2<.
كما أن دعم الفرنكوفونية في المغرب يتم برعاية الحكومة المغربية نفسها إذ أقدمت هذه الأخيرة على توقيف مسلسل تعريب التعليم وحصرته في الطورين الابتدائي والثانوي فقط، ونفس الشيء حصل بالنسبة لتعريب الإدارة، وفي السنة الماضية منحت الحكومة 6 مليارات سنتيم للقناة الثانية من ميزانية الدولة.
وما يجري في المغرب يُعد أضعف ماتقوم به فرنسا من جهود لنشر وتثبيت اللغة والثقافة الفرنسيتين.
ولكن بالرغم من هذه الجهود، تُعاني الفرنكوفونية مشاكل عديدة، وهي مهددة بالإنحصار في العقود القليلة القادمة، لأن اللغة الفرنسية لم تعد وعاء الإنتاج والإبداع، فرنسا تخلفت في ميدان التكنولوجيا والبحث العلمي. أما في المجال الاقتصادي فلقد أصبحت تفقد مجموعة من الأسواق بسبب المنافسة القوية للودل الأخرى، وبالتالي فإن اقتصادها بدأ يتقزم شيئا فشيئا أمام ليس فقط ألمانيا واليابان اللَّتَيْن تقدمتا عليها بسنين عديدة، بل أمام النمور الآسيوية الأربعة الصاعدة : كوريا الجنوبية؛ الطايوان؛ سنغفورة وماليزيا.
كما أن الثقافة الأمريكية غزت العديد من المستعمرات الفرنسية بل إن النموذج الأمريكي غَزَا قلب الفرنكوفونية : باريس، إذ انتشرت بها محلات الماكدونالد ومشروب الكوكاكولا وأفلام هوليود والموسيقى والرقص الأمريكي…
أما في المجال السياسي فلقد أصبحت فرنسا على هامش القوى الفاعلة في مجريات الأحداث السياسية الدولية، مما أفقدها العديد من مستعمراتها السابقة بسبب تدخل قائد النظام الدولي الجديد، كما هو الحال في تونس وتشاد…
ولكن بموازاة هذه التهديدات التي تمس الفرنكوفونية، فإن فرنسا لم تستسلم بعد، بل بالعكس ضاعفت من مجهوداتها وإمكانياتها المادية والبشرية لإنقاذ مستقبلها المرهون يستقبل لغتها. وهذا ما يُفسر السُّعار الذي أصابها في هذه الأيام.
أحمد الفيلالي