إن أرخص عنصر في البلاد المتخلفة والمتأخرة لهو الإنسان فهو آخر ما يفكر فيما يصلحه وينهض به لأن ترتيبه دائماً في آخر القائمة مما يجعل الإهتمام بشأنه لا يصل إليه لذلك يظل رقما مهملاً وعنصراً صالحاً فقط للتضحية به وبمصالحه نعم قد يلتفت إليه في بعض المناسبات الطارئة والمواقف العابرة فيقع الاهتمام به على قدر ما تُقضى به الأوطار الملحة لكنه سرعان ما يطرح في غيابات النسيان والإهمال
كثيرا ما نقرأ عن البلاد المتأخرة أنها قامت بحملة كبيرة ومتواصلة في البوادي والمدن لقتل الخيل والبغال والحمير المصابة ببعض الأوبئة حماية لأخواتها السليمة من العدوى الفتاكة، كما تقوم المصالح المختصة برقابة صارمة على الحدود حتى لا يتسرب منها فرس أو بغل أو حمار مصاب إلى داخل البلد، ويقع ذلك بالنسبة للماشية والنباتات والزروع والخضروات ومازلت أذكر أن مراقباً فلاحياً في بلد متأخر متخلف كان شديداً معي فلم يسمح بمرور صندوق صغير من التفاح صحبته معي هدية من شاب صالح لإحدى الشخصيات العربية إكراماً له، إذ كان بعض التفاح مصاباً، لذلك كان المنع صارماً وحاسماً حماية للفلاحة المحلية من هذه الأمراض الواردة عليها من عدة جهات وعبر عدة حدود؟ وهل سمعنا أن هذه البلاد تهتم بإنسانها منذ ولادته إلى وفاته من حيث الصحة والتربية والتعليم والأخلاق والأسرة والاقتصاد والحياة المادية والمعنوية؟
إن الغرب لم يسبقنا في مضمار العلوم والاختراعات والماديات فقط إذ لو كان ذلك كذلك لهان من الأمر ولكنه سبقنا كثيرا وكثيراً جداً في ميدان حقوق انسانه تكريماً لهذا الإنسان وتقرباً إليه وخدمة له وتقديراً لمكانته وخوفاً من غضبه ووقاية من انتقاده لأن انسانه تربى على الكرامة والحرية والصراحة والشجاعة...
لذلك فإن هذه المحاكمات التي تُعقد في الغرب لكبار الشخصيات الحكومية والمالية والفنية يراد بها أولا حماية "الإنسان" من المحتالين والكذابين والمستغلين والغالبين والمنحرفين على مستوى القيادات السياسية الكبرى وآخر ذلك العزل المهين للأمين العام للحلف الأطلسي هذا العزل الذي جاء من بلجيكا نفسها أي من دولته التي ضحت بهذا المنصب الهام الذي كان في حوزتها من أجل إقامة الحق وإجراء العدالة وفضح الفساد أما البلاد المتأخرة فلا يحاكم فيها إلا سارق البيضة والدجاجة والرغيف والقدر اليسير من المال.
إن إهمال الإنسان في البلاد المتخلفة هو في الحقيقة إهمال للشرط الأول والأساس الأول لكل نهضة وتقدم وانطلاق نحو الأمام الا وهو الانسان، لذلك نرى هذا الانسان يزهد في وطنه ويزهد في دولته ويزهد في قومه ويعيش وهو يحاول بجميع الوسائل للهجرة إلى الخارج وهو مستعد لأداء الولاء لدولة أخرى ولمؤسساتها الدستورية وقد شاهدنا ومراراً بعض شبابنا وهم يؤدون القسم وأيديهم على "القرآن الكريم" بالولاء والاخلاص للدولة الفلانية ولدستورها وقوانينها وومملكتها وملكها حماة النصرانية!!
إن البلاد المتأخرة والمتخلفة تهتم فقط بالعملة الصعبة وبأصحاب الأموال وببعض الماديات لكن الإنسان الذي هو العنصر الأندر والعملة الأصعب يظل دائماً مهملاً ومهمشاً وبذلك تظل البلاد غارقة في التخلف لا تخرج منه أبداً إلى أن تعود إلى أساسها الأول وهو إنسانها!!
د. عبد السلام الهراس
