القاعدة التاسعة : “يقدم في كل ولاية الأقوم بمصالحها”
وتعتبر هذه القاعدة أيضا من أهم قواعد الفقه السياسي التي تُرشِّدُ العمل السياسي الاسلامي بل وتُرَشِّدُ النظام السياسي في دولة الإسلام،وهي من القواعد المتفرعة عن القاعدة العامة السالفة الذكر : “التصرف على الرعية منوط بالمصلحة” فإذا لم يكن الأقوم والأصلح والأقدر على الولاية التي أنيط به القيام بِمَهَامها، كانت تصرفات الولي معرضة للفساد وجلب الضرر، لعدم توفر شروط تلك الولاية في القائم بها.
وبهذا كانت هذه القاعدة من القواعد التي تحدد موازين التعامل الرشيد والسديد في ظِلِّ السياسة الشرعية العادلة، التي تقوم أساسا على جلب النفع ودرء الفساء عن الفرد والأسرة والمجتمع والدولة،
وقد قرر هذه القاعدة ابن عبد السلام بقوله : >ونقدم في كل ولاية أعرف الناس بمصالحها ومفاسدها، وأقومهم بجلب المصالح ودفع المفاسد<(شجرة المعارف : 402، وانظر ما يدل عليها أيضا في كتابه قواعد الأحكام : 1/76) وقررها الامام القرافي حيث قال : >… قاعدة الشرع أنه يقدم في كل موطن وكل ولاية من هو أقوم بمصالحها<(الفروق : 3/206)
والأصل في تقعيد هذه القاعدة السياسية الشرعية ما جاء في القرآن مما يدل عليها، عند معرض حديثه عن المسؤولية والمتأهلين لها، من الأنبياء والرسل عليهم السلام وغيرهم من صالح المؤمنين، ففي قصة موسى عليه السلام مع الرجل الصالح الذي عرض عليه الزواج بإحدى ابنتيه جزاء ما سقى لهما، يقول تعالى على لسان إحداهما في معرض ذكر مؤهلات موسى : >يا أبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إنَّ خَيْرَ مَن اسْتًأْجَرْتَ القَوِيُّ الأمِين<(القصص: 26) وفي قصة يوسف : >اجْعَلْنِي على خَزَائِن الأرضِ إني حَفِيظٌ عَلَيهم<(يوسف : 55) فالحفظ مظهر من مظاهر الأمانة، كما أن العلم مظهر من مظاهر القوة، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى، فالقوة والأمانة هما قوام مسؤولية جميع المؤسسات الولائية في الدولة خاصة كانت أو عامة، إذْ بهما يكون الإنسان اقوم بمصالح ولايته، وبدونهما لا يكون كذلك يعضد هذا ما جاء في السنة كذلك، حيث قال صلى الله عليه وسلم : في مسؤولية الإمارة لأبي ذر رضي الله عنه : >يا أبَا ذَرِّ، إنك ضَعِيفٌ وإنها أمانه…<(صحيح مسلم بشرح النووي : 12/109 - 210) فالحديث فيه إشارة إلى أن الإمارة تحتاج إلى الرجل الأمين القوي لأنها أمانة، ثم إنه جعل ضعف أبي ذر مانعا من موانع توليته إياها، ومعنى ذلك أنه لا يكون أَقْوَمُ بمصالحها والنهوض بها إلا القوي.
وقد نقل الإمام الشاطبي الإتفاق على هذه القاعدة حيث قال : >وسائر الولايات،… إنما يُطْلَبُ بها شرعاً باتفاق مَنْ كَانَ أَهْلاً للقيام بها والغَنَاء فِيها<(الموافقات : 1/177)
ويستخلص من أدلة تقعيد هذه القاعدة أن الولاية لها ركنان هما : القوة والأمانة، والقوة في كل ولاية بحسبها.
فالقوة مثلا في ولاية الجهاد والحرب -المؤسسة العسكرية- ترجع إلى شجاعة القلب، وإلي الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، وإلى القدرة على أنواع القتال، وإلى معرفة استعمال جميع الوسائل الحربية الحديثة.
والقوة في الحكم ترجع إلى فقه أحكام الدين ومقاصده، وإلى العلم بإقامة القسط الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام وتطبيقها.
والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشترى بآياته ثمنا قليلا، وترك خشية الناس، إلا أن اجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا فالواجب في كل جِهَازٍ ولائِي الأصْلَحُ بِحَسَبِهِ، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قُدِّمَ أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضررا فيها، فإذا كانت الحاجة في المؤسة الوِلائية إلى الأمانة أشد، قدم الأمين مثل ولاية حفظ الأموال ونحوها، وإذا كانت الحاجة فيها إلى القوة والشجاعة أشد قُدِّم القوي الشجاع، مثل ولاية الجيش الجهادية ونحوها، وإذا لم تتم المصلحة بشخص واحد جمع بين عدد يكون أقوم بمصالح تلك الولاية، فلابد من ترجيح الأصلح أو تعدد المولى إذا لم تقع الكفاية بواحد تام(انظر في ذلك فتاوي ابن تيمية : 28/253 ومابعدها، والسياسة الشرعية له ص : 16 وما بعدها)
ويندرج تحت هذه القاعدة السياسية جميع الولايات الصغيرة والكبيرة، الخاصة والعامة، ومن ذلك : أنه يُقَدَّمُ في ولاية القضاء من هو أيقظ وأكثر تفطنا لوجوه الحِجَاج وسياسة الخصوم، وأضبط للشرع والقانون ويقدم في رئاسة الدولة أكمل الناس في أصافها، وأقومُهُم بأعبائها، وفي إمامة الصلاة أفْقَه الجماعة وأقرؤهم، وفي تجهيز الأموات أقاربهم الأقرب فالأقرب، ويُقَدَّمُ في ولاية اليتيم من هو أعلم بتنيمة أموال اليتامى وتقادير أموال النفقات، وأحوال الكوافل والمناظرات عند الحكام عن أموال الأيتام، ويقدم في جمع أموال الزكاة من هو أعرف بمقادير النُّصُبِ وأحكام الأموال الزكوية.
وخلاصة الأمر فإن هذه القاعدة العظيمة الشأن في الفقه السياسي تَمُدُّنَا بمعايير وضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، فهي بمثابة منهج واضح المعالم، قائم على العلم والحكمة والقصد.
- القاعدة العاشرة : "يقدم الأصْلَحُ فالأصْلَحُ على الصَّالح في كل ولاية"
وهذه القاعدة جزء من القاعدة التي قبلها، فهي تكملها وتزيد في بيانها، ومفادها أنه كلما وُجِدَ اثنان وأحدهما أصلح، تعينت ولاية الأصلح، وأفضلها، وقد حرر ابن تيمية الكلام في هذه القاعدة وأجاد في ذلك، حيث أكد صراحة أن الشرع أوجب أن يتم اختيار الولاة، مهما كانت رتب ولاياتهم ودرجاتها، على أساس قاعدتين مهمتين تندرج ضمنهما شروط جزئية تختلف باختلاف الوظائف والمهام المنوط بها ومدى أهميتها، وهما :
1- وجوب استعمال الأصلح الموجود لقوله صلى الله عليه وسلم : >من ولِيَ من أَمْرِ المُسْلِمِين شيئاً فَوَلَّى رَجُلاً وهو يَجِدُ مَن هُو أصْلَحُ للمسلمين فقد خَانَ الله ورسوله<(رواه مسلم في الإمارة : 22، والإيمان : 299)
2- اختيار الأمثل فالأمثل إذا تعذر وجود الأصلح لولاية من الولايات، ومن هنا فالواجب على من تولى ولاية اختيار الولاةِ ونوابهم سواء كان ذلك بانتخاب أو تعيين أن يبحث عن المستحقين للولايات لأنَّ ذلك أمانة تقتضي النصح للأمة، فيكون حينئذ قد أدى الأمانة وقام بالواجب، وصار في هذا الموضع من الناصحين لله ولرسوله، ولأئمة المسلمين وعامتهم، وكان من أعدل الناس وأقسطهم عند الله تعالى
ومعرفة الأصلح في هذا الباب إنما تتم بمعرفة مقصود الولاية، ومعرفة طريق المقصود، فإذا عُرِفَتِ المقاصد والوسائل المفضية إليها تم الأمر، لأن الوسائل تَبَعٌ للمقاصد في الحكم، فالمقصود الواجب بالولايات أن يكون الدين كله لله، وذلك بإقامته إقامة شاملة في عقائده وعباداته وتشريعاته السياسية والإجتماعية والاقتصادية وغيرها حتى تكون كلمة الله هي العيا، وإذا كان هذاهو المقصود، فإنه يُتَوَسَّلُ إليه بالأقرب فالأقرب، وينظر إلى الناس أَيُّهُمْ كان أقرب إلى المقصود وُلِّيَ.
ومن فروع القاعدة : إذا اجتمع جماعة يصلحون لمؤسسة ولاية الحسبة التي هي مناط خيرية هذه الأمة، وتفاوتوا في الثقة والأمانة والعفة عن المحرمات ومعرفة الشرع وفقه الدعوة والواقع معا، يقدم أحسنهم فأحسنهم، وأجمعهم لهذه الصفات فأجمعهم، لأن المصلحة فيه أعظم(للتوسع في مثل هذه الأمور انظر : ابن تيمية في كتابيه : السياسة الشرعية : 24.. ومجموع الفتاوي : 28/260)
وخلاصة الأمر في هذه القاعدة العظيمة النفع أن الواجب الشرعي على من تولوا أمر تدبير شؤون المسلمين البحْثُ عن الأصلح، والسَّعْيُ في إصلاح أحوال الناس وأوضاعهم بالعلم والتربية والنصح والترشيد حتى يكمل في الناس ما لابد لهم منه، من أمور الولايات والإمارات ونحوها، فإنَّ مَالاَ يَتِمَّ الواجب إلابه فهو واجب، وكل تقصير أو تهاون في هذا الباب يعتبر خيانة لله ولرسوله وللمسلمين عامة.
القاعدة الحادية عشرة : “عزل الحاكم مقيد بالأصلح فالأصلح”
وهذه القاعدة تكمل التي قبلها، ومعناها أن عزل الحاكم في أي مراتب الحكم كان لسبب من الأسباب يقتضي إبداله بمن هو أصلح منه، إذ لا يجوز عزل حاكم وإبداله بمن دُونَهُ لما فيه من تفويت المصلحة الحاصلة من جهة فضله على غيره.