عن أبي رُقية تميم بن أوس الدَّاري رضي الله عنه ان البي صلى الله عليه وسلم قال : >الدين النصيحة< قُلْنَا لمن؟ قال : >لله ولِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ ولأئمة المسلمين وعامَّتِهِم< رواه مسلم في الايمان باب بيان أن الدين النصيحة
أهمية الحديث :
ذهب أئمة من علماء السلف الى ان هذا الحديث رابع اربعة احاديث عليها مدار الدين كله وهي على المشهور :> انما الاعمال بالنيات، والحلال َبيّن والحرام بَين، ولا يكون المؤمن مؤمنا حتى يحب لاخيه ما يحب لنفسه، وحديث الدين النصيحة. (وهناك اختيارات اخرى حسب الروايات).
وقال شيخ الاسلام محي الدين النووي بل حديث >الدين النصيحة< وحده محصل لفرض الدين كله.
الشرح اللغوي :
والدين في اللغة : لفظ يفيد عدَّة معانٍ منها :الجزاء على الاعمال والحساب بها كقوله تعالى : >يَوْمِئِذٍ يُوَفيِّهُم اللَّّهُ دينَهُمُ الحَقَّ<(سورة النور/ 25) وفي الحديث : >الكَيِّّسُ من دان نفسه< أي حاسب ومنه ايضا قول الشاعر :
وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائٌِ üü وَاعْلَمْ بِأَََنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ
قال ثَعْلَبْ : دَان الرجل اذا أطاع، ودان اذا عصى، ودان اذا عزَّ، ودان اذا ذُلّ، ودان اذا قهر، فهو من الاضداد.
ويطلق الدين على العَادَة والشأْنِ. فمدارهُ اللغوي على : الجزاء والحساب والعادة واالشأن والطاعة...#انظر الجامع للقرطبي ج 1 ص : 144].
وقال القاضي ابو بكر بن العربي في شرح قوله تعالى : >شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّين مَا وَصَى بِهِ نُوحاً والذي أوْحَيْنَا إِلَيْكَ<(الشورى : 13) ...فكان المعنى ووصيناك يامحمد ونوحا دينا واحداً، يعني في الاصول التي لا تختلف فيها الشريعة، وهي التوحيد، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، والتقرب الى الله بصالح الاعمال والتزَّّلَفِ اليه بما يَرُدُّ القَلْبَ والجَارِحَةَ اليه، والصدق والوفاء بالعهد، واداء الامانة وصلة الرحم، وتحريم القتل...، فهذا كله شرع دينا واحدا ومِلَّة مُتَّحِدَة لم تختلف علي ألسنة الانبياء وان اختلفت اعدادهم، وذلك قوله تعالى : >أَنَ اقِيمُوا الدِّينَ ولاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ< أي اجعلوه قائماً؛ يريد دائما مستمراً، محفوظا مستقراً، من غير خلاف فيه ولا اضطراب؛ فمن الخَلْقِ مَنْ وَفَّى بذلك ومنهم من نَكَثَ؛ >وَمَنْ نَكَثَ فَإِنَمَا ينكُثُ عَلَى نَفْسِهِ<(الفتح : 10) أحكام القرآن لابن العربي 4/1655
وأصل النصح في اللغة : الخلوص، ومنه نصحت العسل اذا صفيته من الشمع وخلصته منه، وقيل مأخوذ من نَصَحَ الرجُلُ ثوبَهُ اذا خاطه فشبه فعل الناصح فيما يتحراه للمنصوح له باصلاح الثوب(نزهة المتقين في شرح رياض الصالحين ج 1 ص : 205) والنصيحة بصفة عامة : كلمة يعبر بها عن ارادة الخير للمنصوح له ومدار النصح على اخلاص العمل من الغش ومنه التوبة النَّصوح
معنى الحديث :
يشتمل الحديث على النقط التالية :
أ- وجوب التناصح :
ويكون معنى الدين النصيحة بصيغة القصر والحَصْر يفيد أَنَّ الدين لا يتمثل في دنيا الواقع الا بواجب التناصح بين الناس بعضهم لبعض بالتسابق نحو الخيرات والتنافسس في المكرمات >والمسلمُ للمُسْلِمِ كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضاً<#متفق عليه] فهو بهذا المفهوم مسؤولية جماعية تتوجب من كل أَحَدٍ نحو كلِّ أَحَدٍ حَسَبَ قدرته وامكانياته.
ولهذا فإنه بالرُّغم من ان الله اسقط التكاليف عن العاجز بَدَنِيّاً عن الخروج للغزو والجهاد : ومَالِياً في اداء الزكوات والصدقات واالنفقات فانه لم يُعْفه من واجب اسْداء النصيحة قال تعالى : >ليس عَلَى االضُّعَفَاءِ وَلاَ عَلى المَرْضَى وَلاَ علَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِه(التوبة : 91) أي اذا عرفوا الحق وأحبّوا أوْليََّاءَهُ وَأَبْغَضُوا أَعْدَاءَهُ
ب- مواطن التناحص :
وقد أوضح االحديث أنَّ المنْصُوحَ لَهُ يتمثل في خمسة أمُور :
أولها : النصيحة لله : وتتجلى في اخلاص الاعتقاد بوحدانيته ووصفه تعالى بصفات الالوهية كالخلق والاحياء والاماتة والقدرة واالعلم… وتنزيهه تعالى عن كل النقائص التي لا تليق بجلاله وكبريائه وكذا بالجهاد في سبيل الله لاعلاء كلمته ونصرة دينه.
ثانيهما : النصيحة لكتابه : وتتحقق بقراءته ومدارسته والتفقه فيه والعمل بحلاله واجتناب حرامه واتباع محكمه والايمان بمتشابهه والاعتبار بامثاله وقصصه، واالتعبد بتلاوته، وحفظه من كل تحريف وتَزْوِييرٍ، وتبْلِيغِهِ للنَّاس.
وثالثها : النصيحة لرسوله صلى الله عليه وسلم : وتحصل بتصديق نبوته، والتزام طاعته في الامر والنهي وفي المنشط والمكره، وتوقيره وتعزيره، وتحكيمه في كل الخصومات والمنازعات، واحياء سنته والذّب عنها بالقول والفعل حتى تصير سلوكا عمليا للافراد والجماعات، والعمل على تطهيرها من الدجل واالشعوذة لتتشَرَّبَهَا الناشئة نقية صافية عن طريق الاسوة الحسنة والقدوة الصالحة، ويَكُونَ التخلُّقُ باخلاقه الكريمة هو الغايةَ الكُبْرَى من إِحْيَائِهَا
ورابعها : النصيحة لائمة المسلمين : وتكون بِتَرْكِ الخُروجِ عَلَيْهِم، وارشادهم الى الحق وتنبيههم الى ماأغفلوه من أُمور المسلمين، وكثيراً ما كانت نصائح العلماء للامراء تغيِّر مجرى التاريخ، وتصنع الصفحات المشرقة لحضارة هذه الامة فتنزل النصيحة برداً وسلاما على قلب االمنصوح له فتُثْمِر توبةً بعد عصيان وندماً بعد إصرار : >حكى أن سُلَيْمَان بْنُ عبُدِ المَلِكِ لما دَخَل االمدينة حاجاً قال : هل بها من رجلٍ أَدْرَكَ عدة من الصحابة؟ قالوا : نعم ابو حازم فارسل اليه، فلما أَتَاه قال : >يا أبا حَازِم مالَنَا نَكْرَهُ الموت؟ قال : إنَّكُم عمرّتم الدنيا وخرّبتم الآخرة فتكرهون الخروج من العمران الى الخراب، قال صدقت، ثم قال : ليت شعري مالنا عند الله تعالى؟! قال : اعْرِضْ عَمَلَكَ على كتاب الله قال : فأين اجده؟ قال : في قوله تعالى : >إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيم وَإِنَّ الفُجّارَ لَفِي جَحِيم<(الانفطار : 13 - 14) قال فأيْنَ رَحمةُ الله؟ قال : رحمة الله قريبٌ من المُحْسِنين< قال يا ليت شعْرِي كيف العَرضُ على الله غداً؟ قال : اما االمُحْسن فكالغائب يَقدم على أهله وأما المسيء فَكَالآبِقِ يقْدَمُ على مولاه فبكى سليمان حتى علا صوته واشتد بكاؤه ثم قال :: أوصِِني، قال : إِيَّاك ان يراك الله تعالى حيث نهاك، وإياك أن يفتقدك حيث أمرك<(نظر القيامة الصغرى للدكتور : عمر سليمان الاشقر ص : 34 - 35).
على ان اعظم نصيحة تقدم لأئمة المسلمين وولاة امورهم هي دفعهم عن الظلم واعانتهم على اقامة العدل والحق في الرعية واستعانتهم بالبطانة الصالحة التي تعينهم على تحمل عِبْءِ أَمَانَةِ الخِلاَفَةِ في الارض.
خامسها : النصيحة لعامة المسلمين : وانما تكون بحب الخير لهم وترك معاداتهم والعمل على ارشادهم وهدايتهم، وحب الصالحين منهم والدعاء لجميعهم، والسعي في اصلاح امور دينهم ودنياهم، وذلك بإصلاح الشؤون الاجتماعية للرعية كالتعليم، والصحة، واالتشغيل واالسكن، والنقل، وبناء المساجد وتوفير المرافق الضرورية من ماء وكهرباء. واقامة العدل بينهم...
فما اعظم مسؤولية العلماء والامراء أمام الله تعالى وما اكثر الواجبات والامانات التي للافراد والمجتمعات في اعناقهم : >دخل عمر بن عبَيْد على المنصور فقرأ : >والفجر وليال عشر إلى قوله تعالى : إِنَّ َبَّكَ لَبِالمَرْصَاد : ثم قال : اتق الله يا امير المؤمنين فإن ببابك ناراً متأججة ولا يعمل فيها بكتاب الله ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.وأنت مسؤولٌ عما اجْتَرَحُوا وليسوا مسؤولين عما اجْتَرَحْتَ فلا تُصلح دنياهم بفساد آخرتك. اما والله لو علم عُمَّالُك انه لا يرضيك منهم الا العدل لتقرب به اليك من لا يريده، اتق الله يا امير المؤمنين فان هؤلاء اتخذوك سُلَّما الى شهواتهم فانت كالماسك بالقرون وغيرك يَحْلُبُ وإن هؤلاء لن يُغْنُوا عنك من الله شيئاً<(انظر الوعي الاسلامي العدد 351 ذو القعدة 1415 ابريل 1995.
على ان االمسؤولية الجماعية في اقامة الدين وفي التواصي بالحق وفي التامر بالمعروف والتناهي عن المنكر لا قُسْقط التكليف عن كل المومنين بدعوى حرية الرأي، وحسب كلِّ امْرِئٍ نفسَه في ان يَعْتقد ما يشاء، ويتحرر من التزامات الديين متمسكاً بقوله تعالى >يا أيُّها الذين آمنوا عَلَيْكُم أنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ<(المائدة : 105) قال ابو بكر الصديق في خطبته : >ايها الناس انكم تقرأون هذه الآية وتتأولونها وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : >ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن يُنكر عليهم فلم يفعل الا أوشك أن يعُمهم الله بعذاب من عنده<#الأربعين في اصول االدين للغزالي ص : 53]. ولقد نصح كل الرسل لاممهم بما بلغوا من رسالات الله تعالى فهذا هود عليه السلام يقول لقومه >ياقوم ليس بي سفاهةٌ ولكنِّي رسول من رب العالمين ابلغكم رسالات ربي وانا لكم ناصِحٌ أمين<(الاعراف :67) وكان صالح قد نصح لقومه ولكنهم عَمُوا وصمُّوا >فأَخَذَتْهُم الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا في دَارِهِمْ جَاثِمِين فَتَوَلَّى عَنْهُم وَقَالَ يا قوم لقد ابلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تُحِبُّؤنَ النَّاصِحينَ< (الاعراف : 78).
ويبقى فرض التكليف بالتناصح امراً بالمعروفف ونهيا عن المنكر والتواصي بالحق والصبر أصلاً في الكتاب والسنة والاجماع، ولا يسقط ابداً بل يقوم االمكلفون بهذا الواجب ولا عليهم ان يضِلُّ من يضلُّ اذا اهْتَدَوا وقاموا بما كلفوا به من مسؤولية النصح في الدِّين، وجانبُ المسؤوليّة إنما يكمن في الدعوة والتبليغ والنصح، وأما ثمرة ذلك من الهداية والاستجابة لله والرسول فذلك من اختصاص الله عز وجل يُضِلُّ من يشاء ويهديي من يشاء وكان هذا هو مبدأ الدعوة في فجِرها مع نوح عليه السلام حين قال له قومه : >قَالُوا يَانُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرتَ جِدَالَنَا فاتِنَا بِمَا تُعِدُنَاا إِنْ كُنتَ مِنَ االصَّادِقِين. قَالَ إنَمَا يَاتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِين ولااَ يَنْفَعُكُمْْ نُصْحِي إِنَ اَرَدتُّ أَنَ أَنْصَحَ لَكُمُ إِن كان اللَّهُ يُريدُ أَنْ يُّغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون<(هود : 32 – 33) والله هو الهادي الى سواء السبيل.