القاعدة الثانية : “تعذر العدالة في الولاية العامة والخاصة يقتضي تقديم الأقل فسوقا فالأقل”.
تقدم أن الأصل في كل ولاية أن يكون صاحبها عدلا لتحصل الثقة به والنصح في ولايته بعدم الخيانة والتقصير، فإذا لم تتوفر أو توفرت في أشخاص مع تفاوتها فيهم، فإن المصلحة العامة والخاصة للمسلمين تقتضي العمل بالموجود إذا انعدم المطلوب حتى لا تفوت جميع المصالح، إذ الحرص على وجود العدالة كاملة ليس بأولى من الحرص على جلب المصالح ودرء المفاسد المترتبة على الولاية، ثم إن الحرص على تحصيل ما يمكن تحصيله من المصالح أولى من تفويت الجميع. ومن هنا فإنه لو فرض خلو زمان ما من العدول جملة، لم يكن بد من إقامة الأشبه، فهو العدل في زمانه، فالحكام إذا تفاوتوا في الفسق قدمت الأمة أقلهم فسقا، إذ لو تقدم غيره لفات من المصالح مالا يمكن الإستغناء عنه، وهذا من باب “درء أشد المفسدتين بأخفهما”، ومن باب تقديم الأولى فالأولى عند فقدان المطلوب أصلا.
والأصل في هذا كله أننا إذا أمرنا بشيء أتينا منه ما استطعنا، ويسقط عنا ما عجزنا عنه، وقد قال تعالى على لسان شعيب عليه السلام : “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله” -هود : 88. وقال تعالى : “فاتقوا الله ما استطعتم” فعلق سبحانه وتعالى تحصيل مصالح التقوى على الإستطاعة، فكذلك المصالح كلها، فيقدم الأقل فسقا فالأقل في الرئاسة، والقضاء، والوزارة، والعمالة، والشاهد على الأكثر فسقا وظلما، ولا ينفذ من تصرفاتهم إلا ما كان منوطا بالمصلحة موافقا للشرع.
القاعدة الثالثة : “اختلاف الولاية في جلب المصالح ودرء المفاسد يقتضي اختلاف رتبها”.
ومعنى هذه القاعدة أن الولايات التي تسهر على إدارة شؤون الأمة في جميع ميادين الحياة العلمية والسياسية والاجتماعية والعسكرية وغيرها من المؤسسات والولايات التي تُكون الأطر التنظيمية والتنفيذية للدولة تتفاوت بتفاوت كبرها وحجمها في جلب النفع والخير، ودفع الضرر والشر عن جماهير الأمة، وهذا التفاوت يقتضي اختلاف هذه المؤسسات الْوِلاَئِيَة في الدرجة والرتبة والحكم.
إن هذه القاعدة تمدنا بمنهج تحديد الأولويات وفقهها وترتيبها القائم على معيار جلب الصلاح ودفع الضرر، فيكون اتجاهنا نحو تأسيس المؤسسات الولائىة التي يعم نفعها الشعب وتجلب له الخير أكبر من غيرها، وبهذا يكسب المجتمع عناصر التقدم والنهوض القائمة على العلم والمنهج.
ومن أمثلة هذه القاعدة : أن مؤسسة ولاية رئاسة الدولة -الخلافة أو الإمامة- أفضل وأعظم وأوجب شرعا وعقلا من كل ولاية، لعموم جلبها المنافع، ودرئها المفاسد، وتليها مؤسسات ولاية الوزارات الهامة والمؤثرة في الواقع والفاعلة فيه، ثم ولاية القضاء لأنها أعم من سائر الولايات.
ومنها أيضا أن الولاية على الجيش -الجهاد- أفضل من الولاية على الحج، لأن فضيلة الجهاد أكمل من فضيلة الحج، وذلك لأن إقامة الدين وإعزازه وإمامته على جميع الأديان والإديولوجيات لا تتم إلا بدفع العدوان على بلاد الأمة الإسلامية، وهذا لا يكون إلا بوسيلة الجهاد والإعداد له، قال تعالى : “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم” – الأنفال : 61.
القاعدة الرابعة : “تختلف ولاية المظالم باختلاف رتبها في المفاسد”.
وهذه القاعدة عكس التي قبلها، ومفادها أن اختلاف وتفاوت ولاية المظالم القائمة على الهوى والظلم والإرهاب المقنع إنما يحصل باختلاف وتفاوت ضررها وشرها، وخطورة ذلك في دفع المصالح وتفويتها وجلب المضار وإقامتها فيعم الضرر والشر الأمة والمجتمع أفرادا وأسرا وجماعات.
وينبني عليها أن الولاية على قتل الأبرياء وتعذيبهم وطلبهم والتنكيل بهم بغير حق، أقبح وأعظم ضررا، وأشد حرمة، وأعظم إثما عند الله تعالى من الولاية على الضرب والشتم بغير حق، والولاية على الفاحشة وتزيينها ونشرها في المجتمع، أقبح وأخطر وأشد حرمة وإنما من الولاية على ما دونها من المفاسد، والولاية على إفساد الدين وضياعه أقبح وأعظم ضررا وأشد حرمة من الولاية على إفساد العقول أو أكل مال الناس بالباطل.
ويستثنى من ذلك جواز الإعانة على الإثم والمعصية لا من جهة كونه معصية، وإنما من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة أكبر منه، لأن الإعانة هنا إنما هي على درء المفاسد، فالمعصية فيها تبعا لا مقصودا، ومثال ذلك : إذا أراد ظالم قتل إنسان مصادرة على ماله ويغلب على ظنه أنه يقتله إن امتنع من دفع ماله إليه، وليس له وسيلة لدفع ظلمه، فإنه يجب عليه بذل ماله فكاكا لنفسه(1).
وخلاصة الأمر فإن هذه القاعدة تُثْبِت خطورة الولاية على الظلم والتعدي لما تفضي إليه من أضرار ومفاسد، تشمل الدين والنفس والعرض والعقل والمال ومن هذا فإن محاربتها وإزالتها من المجتمع يتطلب جهدا كبيرا من الدعاة والعاملين المصلحين، ثم إن إزالتها وإصلاحها يقتضي البدء بأكبرها خطرا وفسادا.
فالبدء مثلا بإصلاح دين الناس ومعتقداتهم وتصوراتهم، أولى من البدء بإصلاح أخلاقهم، لأن إصلاح الدين والمعتقدات هو القاعدة التي ينبني عليها إصلاح الأخلاق وغيرها.
القاعدة الخامسة : “اختلاف رتب الولايات الصالحة يقتضي اختلاف أجورها”(2)
وهذه القاعدة تكمل القاعدتين السابقتين، ومفادها أن تفاوت رتب الولايات بسبب جلبها للمصالح ودرئها للمفاسد من حيث القلة والكثرة والتوسط يستلزم تفاوت واختلاف أجورها والثواب عليها.
وتستمد هذه القاعدة مشروعيتها وتأصيلها من النص والإجماع، فأما النص فمنه قوله عليه السلام : >سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل…….<(3) فالرسول (ص) بدأ بالإمام العادل لعلو مرتبته، وعظم أجره عند ربه، ومنها قوله أيضا : “المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمان وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا”(4)
وأما الإجماع فقد نقله العز بقوله : “وأجمع المسلمون على أن الولايات من أفضل الطاعات، فإن الولاة المقسطين أعظم أجرا وأجل قدرا من غيرهم لكثرة ما يجري على أيديهم من إقامة الحق ودرء الباطل، ……، وأما ولاة السوء وقضاة الجور فمن أعظم الناس وزرا وأحطهم درجة عند الله، لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام…”(5).
ويندرج تحت هذه القاعدة أمثلة منها : أن أجر الحاكم أعظم من أجر المفتي لأنه يفتي ويلزم، فيؤجر على الفتيا والإلزام إذا استوت الواقعة التي فيها الفتيا والحكم، بينما المفتي يؤجر على فتواه فقط، وقد تختلف أجورهما باختلاف ما يجلبانه من المصالح ويَدْرَآنِهِ من المفاسد، يقول ابن عبد السلام : “وتصدي الحاكم للحكم أفضل من تصدي المفتي للفتيا، وأجر الإمام الأعظم أفضل من أجر المفتي والحاكم، لأن ما يجلبه من المصالح ويدرءه من المفاسد أتم وأعم، وعلى الجملة فالعادل من الأئمة والولاة أعظم أجرا من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام،……، فإذا أمر الإمام بجلب المصالح العامة ودرء المفاسد العامة، كان له أجر بحسب ما دعا إليه من المصالح العامة وزجر عنه من المفاسد،……، وأما المفتون فيتابون على تصديهم للفتوى، وتتفاوت أجورهم بتفاوت تلك الفتاوى وكثرتها، وعمومها وخصوصها”(6).
(1) العز بن عبد السلام : قواعد الأحكام : 1/129.
(2) لهذه القاعدة وجه معاكس ومخالف يعطينا قاعدة أخرى وهي : “اختلاف رتب الولايات الفاسدة يقتضي اختلاف الإثم عليها”.
(3) البخاري في الآذان باب من جلس في المسجد، ومسلم في الزكاة، باب فضل إخفاء الصدقة.
(4) مسلم في الإمارة رقم : 1827، والنسائي : 8/221-آداب القضاة- وأحمد في المسند 2/160، والشوكاني في النيل، كتاب الأقضية، باب التشديد في الولايات : 9/162.
(5و6) قواعد الأحكام : 1/142-143-144.