جرت العادة أن تُعرف النقابة على أنها تجمع مهني يُراد منه تكتل أصحاب المهنة الواحدة لتشكيل قوة ضغط للدفاع عن حقوقهم المادية والمعنوية، وفي بعض الأحيان تكون النقابة -بالإضافة إلى ما سبق ذكره- إطارا قانونيا لتنظيم المهنة والإشراف على أصحابها، كما هو الحال بالنسبة لنقابة الأطباء والمحامين…
إلا أنه من الناحية العملية نرى بعض النقابات لا تصل إلى هذا المستوى في ممارساتها، أو أنها تتعداه إلى ما هو أكبر وأنفع للأتباع، وفي حالات أخرى نجد بعض النقابات تعمل ضدا على طموحات ومطالب وتطلعات المهنيين لصالح الحكومة أو لصالح أرباب العمل الخواص.
والأمثلة قد تتعدد وتتنوع لذلك أرى أن ننظر فقط في المبادئ العامة التي تؤطر العمل النقابي، وهي -في ظني- اتجاهان على مستوى طبيعة الممارسة :
المفهوم السائد للعمل النقابي هو أن النقابة حركة احتجاجية، بل هي إطار ينظم هذه الاحتجاجات وهذه الأخيرة تكون في الغالب عبارة عن رد فعل اتجاه أي هجوم أوتعدٍّ على حقوق أصحاب المهنة : كبعض الإصلاحات القانونية التي لا تخدم مصلحة المهنة وأصحابها، أو الزيادة في الأسعار دون الزيادة في الأجور، أو تجميد الترقيات وتوقيف التعويضات، أو الطرد الذي يمس بعض الأفراد…
ويكون رد الفعل هذا عبارة عن لقاءات تفاوضية في البداية مع أرباب العمل من حكومة وخواص، وعندما تفشل هذه الخطوة ينتقل العمل النقابي إلى أشكال نضالية أخرى كالاعتصام والإضراب عن العمل والإضراب عن الطعام والتظاهر في الشوارع… وكل هذه الأشكال تتم في جو سلمي، ولكنها سرعان ما تتطور إلى استعمال العنف، في حالة انفلات زمام التحكم في الأمور من طرف مناضلي النقابة عند استغلال بعض التنظيمات السياسية لمثل هذه التجمعات في التحريض الشعبي على “الثورة” والإنتقام لإضعاف النظام الحاكم أو الحكومة القائمة، أو في حالة ضعف انضباط المناضلين لتعليمات قياداتهم النقابية إما بتجاوز هذه التعليمات والتوجيهات أو بالاستجابة لاستفزازات قوى الأمن… وهكذا تدخل النقابة في متاهات العنف والعنف المضاد، وتكون النتيجة دائما على الشكل التالي : ضحايا من الطرفين (النقابة وقوات الأمن) ومحاكمات جائرة في حق بعض المناضلين وبعض المواطنين الأبرياء أيضا الذين جرفتهم آلات الاعتقال العمياء، واستجابة من أرباب العمل لبعض المظالم والمطالب لامتصاص الغضب وتهديء الأوضاع، وإضعاف للنقابة بسبب نفور المهنيين منها وبسبب تراجع نشاطاتها التعبوية نتيجة اعتقال خيرة مناضليها ولكثرة التضييقات التي تُلاحقها من طرف السلطات…
وهذا الاتجاه يتميزبصفة عامة بما يلي :
- قلة المنخرطين في النقابة
-ضعف المشاركة في الانتخابات الداخلية للنقابة
- تحكم الاتجاه السياسي لقيادات النقابة في نشاطها : فمثلا إذا كان هذا الاتجاه في الحكومة أو أن أرباب العمل من رفاقهم، فإن نشاط النقابة يكون ضعيفا وباردا ومسرحيا، أما إذا كان العكس فإن نشاطهايتحول إلى معارك متلاحقة ساخنة وتزداد حرارتها وحجمها قبيل الانتخابات العامة الجماعية أو التشريعية، أو في بعض الظروف السياسية التي تكون فيها الحكومة في وضع حرج وبالتالي يتم الخلط بين ما هو نقابي وسياسي حزبي.
- قلة المناضلين ومحدودية وظائفهم : بما أن سياسة النقابة ونشاطها يصطبغ بالصبغة الحزبية، فإن الذين يشاركون في سير وإدارة النقابة هم فقط المناضلون المنتمون للحزب الفائز بقيادة النقابة أما المناضلون الآخرون فإنهم يتراجعون ويجمدون نشاطهم، إلا ما كان يساعدهم على تشويه سمعة خصومهم وإفشال برامجهم لتنفير الناخبين منهم. أما بالنسبة للوظائف التي يحتاجها هذا النوع من العمل النقابي فهي على الشكل التالي :
* إدارة النقابة : وتُسند هذه الوظيفة إلى المناضلين الذين يُحسنون فن الخطابة لتعبئة المنتمين، والذين يُحسنون فن التفاوض لكسب المعارك بأقل تكلفة وجهد أي في الخطوة الأولى من العمل الاحتجاجي -كما تبين ذلك سابقا- والذين يُجيدون الأعمال الإدارية المكتبية من مراسلات وكتابة للتقارير وإعداد للملفات وتنظيم للأرشيف…
* توسيع قاعدة النقابة : وتسند هذه الوظيفة إلى المناضلين الذين يتميزون بحسن ربط العلاقات، أي الأشخاص الاجتماعيين بهدف الاحتكاك مع المهنيين اللامنتمين لكسبهم داخل كتلة الحزب العاملة في النقابة، أو على الأقل كسب أصواتهم وتأييدهم في الانتخابات النقابية والسياسية.
* إدارة المعارك : ويقوم بهذه الوظيفة المناضلون الذين يَنْظمون الشعارات (الهتافات) وَيُنظِّمونها والذين لهم الخبرة في تنظيم الصفوف والكتل البشرية، والذين لهم الخبرة في ممارسة العنف وفي تنظيم هذه الممارسة…
هذا بالنسبة للاتجاه الأول، أما الاتجاه الثاني فهو يرى أن العمل النقابي لا ينحصر فقط في المطالبة بالحقوق، المادية والمعنوية لأصحاب المهن وفي خوض المعارك النضالية لانتزاع هذه الحقوق، وإنما هو بالإضافة إلى ذلك كله إطار للتضامن الاجتماعي داخل النقابة وخارجها بل خارج الحدود الوطنية إن اقتضى الحال، هذا التضامن يتمثل في تعاون أتباع النقابة وتضامنهم في السراء والضراء، وذلك بإحداث مؤسسات اجتماعية وثقافية وتربوية تابعة للنقابة، عوض أن تكون النقابة مؤسسة تابعة للحزب أو للحكومة. من بين هذه المؤسسات نذكر : المستشفيات، الصيدليات، الأندية الثقافية، الأندية الرياضية، رياض الأطفال، المدارس، المخيمات، التعاونيات السكنية، المتاجر الجماعية، المكتبات، تعاونيات التأمين، صناديق الدعم الخاصة بمناسبات الزواج والولادة والختان والحج والجنائز… كما تساهم النقابة أيضا في تقديم يد العون والمساعدة لجميع سكان الوطن في حالة الكوارث الطبيعية كالفيضانات والزلازل أو الكوارث البشرية كالحروب والحرائق… بل أكثر من ذلك قد تساهم النقابة في أعمال الإغاثة وتقديم الخدمات الإنسانية خارج الوطن(مثال ما تقوم به لجنة الإغاثة التابعة لنقابة الأطباء بمصر اتجاه شعب البوسنة والهرسك وفلسطين).
وهذا الاتجاه يتميز بالمواصفات التالية :
- كثرة المنخرطين في النقابة، لأنها تخدم كل أصحاب المهنة بدون تمييز سياسي أو طائفي أو قبلي..
- ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات الداخلية للنقابة.
- كثرة المناضلين لتعدد وكثرة الوظائف التي توفرها مؤسسات النقابة المختلفة
- غلبة الاتجاه الاجتماعي والانساني على أعمال النقابة وأنشطتها.