لا تتردد أصداء الحرب الأهلية الجزائرية في فرنسا وحدها بل تتعداها إلى دول عدة بعضها بلور استراتيجية خاصة لمواجهة الحدث الجزائري، وبعضها الآخر لا يرى داعيا لذلك ويفضل التعامل مع الأحداث الجزائرية حدث حدثا لكن من خلال هذه المواقف المختلفة بل والمتناقضة أحيانا، يمكننا أن نستشف بعض الخطوط العريضة لمواقف سيكون لها الأثر البالغ على ما سيأتي من فصول المأساة الجزائرية.
إن الحضور الأمريكي في هذه المنطقة كما في غيرها من بؤر التوتر حضور حاسم، فقد تحددت السياسة الأمريكية تجاه الجزائر في وقت مبكر، إذ بادرت واشنطن إلى إدانة قرار السلطات الجزائرية بتعطيل المسلسل الانتخابي في دجنبر 1991، إن الأحداث التي عرفتها الجزائر عقب هذا التاريخ أقنعت الخارجية الأمريكية بأن موقفها كان موقفا، فقد دأب مسؤولوها على التنديد بقمع المجموعات المسلحة المتطرفة وأبدوا رغبتهم في أن ينظم حوار يسمح بعودة الاسلاميين إلى المساحة السياسية الشرعية، وأن يستأنف المسلسل الانتخابي، وأن تستلم جبهة الإنقاذ السلطة في نهاية المطاف، واعتبروا بأن هذه الضمانة الوحيدة لعودة الاستقرار إلىالجزائر. وقد عبر متخصصون في الشؤون الاسلامية لهؤلاء المسؤولين عن اقتناعهم بأن نظاما إسلاميا في الجزائر سيسمح بتطور المقاولات الخاصة وبازدهار اقتصاد السوق، بالاضافة إلى أنه سيضمن العودة إلى السلم الاجتماعي. وحسب هؤلاء المتخصصين فإنه ينبغي التعامل مع الظاهرة الاسلامية الجزائرية على أنها خصوصية وطنية وليس على أنها تيار دخيل وفد من إيران أو من غيرها. إن الخطأ الفادح الذي وقع فيه المسؤولون الأمريكيون ـ حسب هؤلاء ـ هو أنهم ساندوا نظام الشاه الذي كان يتفاخر بأنه نظام عصري بدلا من مساندة تيار إسلامي معتدل ومتعقل، ولو تبنوا هذا الخيار لحفظ على إيران استقرارها الاقتصادي والاجتماعي، ولتمكنت أمريكا من الابقاء على ما تستطيع الابقاء عليه من مصالحها هناك. إن هذا الخطأ لا تنوي أمريكا إعادة ارتكابه في الجزائر وبناء على ذلك فإن المسؤولين الأمريكان يركزون حاليا على ربط الاتصال مع مختلف التيارات الاسلامية، فقد جرت بعض هذه الاتصالات شبه العلنية مع مندوبين عن جبهة الإنقاذ ومع ممثلين للحركتين الاسلاميتين الشرعيتين حماس والنهضة، بينما جرت اتصالات أخرى في الخفاء مع بعض الأوساط الجزائرية المؤيدة للحوار مع الاسلاميين والتي لا ترى مانعا من توليهم السلطة، بل إن الامريكيين يسعون إلى ربط الصلة مع مجموعات من ضباط الجيش تميل إلى هذا الحل.
وعلى صعيد آخر فقد نجح الأمريكان في إقناع شركاء فرنسا الاوربيين بتبني موقفهم من الأزمة الجزائرية، ذلك أن الدبلوماسية الفرنسية تجد صعوبة بالغة في إقناع لنندن وبون وروما بأن التيار الاسلامي يشكل خطرا حقيقيا، ومع ذلك فإن الهاجس الوحيد لاسبانيا وإيطاليا ـ بحكم قربهما الجغرافي من الجزائر ـ هو العمل على تجنب انتقال المضاعفات السلبية لهذه الأحداث إلى داخل أراضيها. وعلى عكس الفرنسيين، فإن الالمان والانجليز لا يتعاطفون مع موقف السلطات الجزائرية العنيف من الاسلاميين، خصوصا على أعمدة الصحف، أما الحكومتان الالمانية والبريطانية فإنهما تحرصان على عدم إحراج فرنسا باتخاذ مواقف معارضة لسياستها إدراكا منهما للمصالح الحيوية التي تتمتع بها في هذا البلد، لكن غالبية المتخصصينن الألمان والانجليز يتفقون مع نظرائهم الامريكان في تحليلهم للأوضاع في الجزائر.
القضية الجزائرية تحظى باهتمام خاص من طرف الدبلوماسية المغربية كذلك، وكل القرارات يتخذها الملك بطبيعة الحال، وقد نقل عنه غالبية المتحدثين إليه أنه يأسف لإيقاف المسلسل الانتخابي في الجزائر، وأنه يتمنى أن يتم التوفيق بين السلطات والاسلاميين عبر حوار يتم إجراؤه في اقرب الآجال. لكن مع الواضح أن دواعي الحسن الثاني إلى تبني هذا الموقف تبقى معقدة، فهو دائما يعتبر الجيش الجزائري عدوه الرئيسي ومن ثم فإن انشغال هذا الجيش بالحرب الأهلية شيء مفيد، أولالأن هذا مصدر إضعاف مستمر للجزائر، ثم لأنه يحرم جبهة البولساريو من الدعم العسكري. وكلما طال أمد الحرب الجزائرية، كلما اتضح بأن المغرب هو البلد المستقر الوحيد في منطقة شمال غرب افريقيا، وأنه البلد الوحيد الذي يمتلك القدرة العسكرية الكافية لمواجهة تداعيات المأساة الجزائرية، وبالتالي يتضح أنه البلد الذي يستحق الأولوية في الحصول على دعم الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
إن الانتصار المحتمل للاسلاميين الجزائريين لن يغير من واقع الأمور شيئا، بل العكس إن الملك يعرف بأنه يعول ـ في الخارج كما في الداخل ـ على دوره كأمير المؤمنين للحيلولة دون انتشار عدوى التيار الاسلامي إلى داخل بلاده، وقد حصل أن نبهه بعض محاوريه ـ بكل احترام وأدب ـ إلى أنه ربما كان مفرطا في التفاؤل بهذا الخصوص إلا أنه لم يغير موقفه.
أما بالنسبة لتونس فإن الحرب الأهلية في الجزائر تعتبر مسألة حياة أو موت، فمن المعلوم أن خيار التونسيين كان على النقيض تماما من خيار الجزائريين ابتداء من خريف 1988، إذ قررت الحكومة التونسية ألا مكان في حياتها السياسية لاحزاب ذات توجه ديني، بينما رأت الحكومة الجزائرية آنذاك أن تسمح للحركات الاسلامية بالمشاركة في الحياة السياسية، الظاهر أنه ليس من قبيل المبالغة القول بأن أغلبية التونسيين يرون بأن أحداث الجزائر أكدت بأن حكومتهم كانت على حق حين أقدمت على قرارها ذلك، كما أن الاحتجاجات بين الفينة والأخرى على بعض حالات القمع التي تطال عناصر المعارضة لن تثني الرئيس بن علي عن المضي في النهج الذي رسمه لنظامه، فهو يعتقد بأن ما يحدث في الجزائر نموذج لما لا يجوز أن يحدث في تونس بأي حال من الأحوال، ومن المؤكد أن غالبية التونسيين يشاطرونه نفس الرأي. ويضيف البعض بأن طول الحدود المشتركة بين تونس والجزائر يبلغ حدا يصعب معه مراقبتها وبالتالي فإن انتصار الاسلاميين في الصراع الدائر في الجزائر يعتبر أسوأ خبر يمكن أن ينتهي إلى علم السلطة في تونس، أما في الشرق الأوسط فإن الدول العربية تتعامل مع الأزمة الجزائرية حسب مقتضيات سياساتها الداخلية والخارجية، فمصر هي الدولة الأكثر تصميما على محاربة التيارات الاسلامية، ومما لا شك فيه أن انتصارا محتملا لا سلاميي الجزائر قد يعطي نفسا جديدا ودفعة قوية للاسلاميين المصريين ألد خصوم حسني مبارك. أما الرئيس السوري حافظ الأسد الذي كان سباقا إلى قمع إسلامييه بكل قسوة فإنه لا يبدي أي قدر من التعاطف مع جبهة الانقاذ ولا مع الجماعة الاسلامية المسلحة، لكنه لا ينسى ممارسته الطويلة للعبة التوازنات الضرورية : فطالما لم يوقع اتفاقية سلام مع إسرائيل فإنه سيحتفظ بورقة حزب الله اللبناني وحتى ورقة حماس الفلسطينية، وسيحافظ على علاقاته مع إيران، ليلوح بها عندما تقتضي الضرورة.
أما السعودية فقد لا متها الحكومة الفرنسية على مساهمتها في تضخم التيار الاسلامي الجزائري، إذ طالبها شارل باسكوا مؤخرا بالكف عن دعم هذا التيار، بينما أوحى إليها المسؤولون الامريكيون بعدم قطع صلتها مع من كانت تمولهم وترعاهم من الاسلاميين، فلربما دعت الحاجة في يوم ما إلى تدخلها من اجل كبح جماحهم وضبط اندفاعهم.
أما بالنسبة للسودان فلما ضربتن عليه الولايات المتحدة الحصار بسبب علاقاته المتميزة مع إيران وجد حكامه أن المسؤولين الفرنسيين أكثر تفهما لوضعه، إذ طلبت فرنسا من السودان أن يمتنع عن مساعدة الجبهة الاسلامية للإنقاذ أو الجماعة الاسلامية المسلحة على أن تعمل على تخفيف وطأة الحصار عليه رويدا رويدا، ويظهر بأن السودانيين قبلوا هذا العرض واستفادوا منه على أرض الواقع دون أن يتخلوا عن تعاطفهم مع الاسلاميين الجزائريين.
وأخيرا لا شك بأن العقيد القذافي راودته فكرة أن انتصار الاسلاميين في مجموع العالم العربي والاسلامي قد يخرجه من عزلته الدولية، هذا رغم أنه لا ينسى بأنهم حاولوا اغتياله عدة مرات، لكنه في اللحظة الراهنة يعقد آمالا كبيرة على الرئيس مبارك أفضل محاميه لدى الدول الغربية فبفضله يؤمل أن تخفف الولايات المتحدة الأمريكية ضغوطها على نظامه.
نقله إلى العربية كمال أبو إسماعيل
عن مجلة جون أفريك الفرنسية ع 1775
3