تعترض الجاليات الاسلامية التي تقيم بالبلدان الأوربية مشاكل وصعوبات في إقامة دينهم والالتزام بتشريعه ونظمه، خصوصا فيما يتعلق بالحياة العملية. وإذا كانت إقامة شعائر الاسلام والوقوف عند حلاله وحرامه في بعض الأمور التي لا يؤثر فيها العامل الجغرافي والبيئي والاجتماعي والسياسي.. أمرا ميسورا، فإن هناك أمورا وقضايا أخرى يصعب على المسلم المهاجر أن يباشرها ويعالجها كما يباشرها ويعالجها لو كان في وطنه، لأنه يعيش في بلد غير مسلم، تحكمه سياسة غير مسلمة، وعلاقات وعادات وأعراف اجتماعية غير مسلمة، وسلوك وأوضاع وأنماط حياتية غير مسلمة..
فالتزامه بدينه وإسلامه داخل هذا المجتمع يتطلب منه فقها بالدين، وفهما لأحكامه ومقاصده ومكارمه، ومعرفة بما يجوز وما لا يجوز من الرخص والتخفيفات التي يتمتع بها المكلف في مثل هذا الوضع الذي يعيشه في المهجر.
والتشريع الاسلامي لا يعجزه أن يستوعب أي وضع من أوضاع المكلفين، ولا أي نمط من أنماط حياتهم، ومن قواعده، أن الحرج مرفوع، وأن الضرر يزال، وأن المشقة تجلب التيسير، وأنه لا تكليف بما لا يطاق. وأن ما لا يتحرز منه معفو عنه، وأن الأمر إذا ضاق اتسع…الخ
وقد اهتم الفقهاء منذ فجر الاسلام بوضعية المسلم خارج وطنه الاسلامي، فقسموا المعمورة إلى دار إسلام ودار كفر، وبينوا ما للمكلف فيهما من عزائم ورخص..
ومما يندرج في دائرة ما يهم المسلم المهاجر، قضايا ومسائل في العلاقات الاجتماعية. كالزواج والطلاق والإنجاب، والحمل، وعلاقة الآباء بالأبناء، والإرث، والجوار، والتجنس بجنسية بلد المهجر.
وقد وردت على وزارة الجالية المغربية أسئلة في هذا المحور من المهاجرين المغاربة بواسطة العلماء والوعاظ والمرشدين الذي تبعثهم الوزارة كل سنة. وقد قمت بتصنيف هذه الأسئلة (مجموعة 69 سؤالا) وجمع المتشابه والمتقارب منها، وحذف المكرر، وإعادة صياغتها.
وقبل الإجابة التفصيلية عن هذه الأسئلة، لا بأس من بيان الأحكام العامة لقضايا هذا المحور، ليكون ذلك إطارا للإجابة المفصلة، وذلك من خلال الفقرات الآتية :
1- الزواج :
الزواج هو الوجه الشرعي لارتباط الرجل بالمرأة واستمتاع بعضهما ببعض. وهو أساس بناء البيت وإنجاب الذرية، وهو سنة الله في الأنبياء والمرسلين وعباده الذين خلوا من قبل/ وهو آيات من آيات الله في الكون والأنفس : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم موردة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}(الروم : 21). وللاسلام تشريعه الذي ينظم بناء الأسرة ويضبط علاقاتها الداخلية والخارجية وفق تصوره وقيمه وأصوله. فعلى المكلف الالتزام بهذا التشريع ليسهم في بناء الحياة الاسلامية النظيفة الموصولة بالله عز وجل.
وفي المجتمعات الأوربية من الفساد والميوعة والخلاعة والتفسخ والإباحية ما يفتتن المسلم عن دينه ويباعد بينه وبين الالتزام بالاسلام وتطبيق أحكامه الشرعية، لذلك كان لزاما على المسلم المهاجر الذي يقيم في مثل هذه المجتمعات أن يحصن نفسه ـ أولا ـ بالتربية القلبية الإيمانية. ويعمق صلته بالله عز وجل، ليسلم من هذه المثيرات والمؤثرات، وليكون قادرا على الالتزام بشرع الله في حياته المهجرية. وعلى العلماء الذين يفتونه أن يعوا واقعه وخصوصياته، حتى يستطيعوا أن ينزلوا أحكام الشرع على هذا الواقع تنزيلا حكيما رشيدا، تراعى فيه علل الأحكام ومقاصدها الشرعية، ويميز فيه بين ما هو من قبيل فهم الأحكام الشرعية كما هي، وبين ما هو من قبيل منهج التطبيق وأدواته وإجراءاته، فال لزواج ـ مثلا ـ أحكام شرعية ثابتة مجردة عن الأشخاص والأماكن والأزمان، ولكن عند تنفيذ هذه الأحكام وتطبيقها في الواقع، قد يختلف المكلفون في أشغال التطبيق، وأساليبه وإجراءاته من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، ومن زمان لآخر، مع اتفاقهم واتحادهم في مضمون الأحكام المراد تطبيقها.
ومن أبرز القضايا التي تواجه المسلم المهاجر في زواجه :
ـ طريقة عقد الزواج
ـ الزواج بغير المسلمة.
أما طريقة عقد الزواج : فوجه الخصوصية المهجرية هنا أن الزواج قد يتم في المحاكم والبلديات أو غيرها من المؤسسات الإدارية. وأن المعقود عليها قد تكون حاملا من زنا، وأنها لا تحضر الولي، وأنها قد تشترط شروطا لا يقبلها الشرع.
والذي يجب أن يحرص عليه المسلم المهاجر هو تحقيق الصورة الشرعية للزواج. وذلك بإيجاد أركانه وتوفير شروطه. فلا بد في عقد الزواج من زوج وزوجة وولي وصداق وشاهدين عدلين من المسلمين.
فالزوج : يجب أن يكون بالغا، خاليا من العيوب التي يثبت بها الخيار للزوجة، قادرا على الباءة والنفقة على الزوجة والقيام بحقوقها.
والزوجة : يجب أن تكون قادرة على النكاح، حلا له، أي ليست معتدة ولا حاملا ولا في عصمة رجل آخر. وأن تكون خالية من العيوب التي يثبت بها الخيار للزوج، قابلة للزوج.
والولي، يجب أن يكون بالغا عاقلا مسلما أهلا للولاية، قد قبل التزويج وأمضاه..
والصداق : يجب أن يكون حلالا، في ملك الزوج
والشاهدان : يجب أن يكونا عدلين مسلمين، سواء كانا منتصبين للعدالة (أي العدول الرسميون) أو غير منتصبين لها، فالمدار على أن يكونا عدلين.
فإذا وجدت هذه الأركان، وتحققت شروطها، فقد وجدت حقيقة الزواج وتكونت صورته الشرعية. ولا يعقب ذلك إلا التنفيذ الذي تتحقق به آثار الزواج وأحكامه، وذلك بالبناء والدخول أو بما هو في حكم ذلك كالخلوة وإرخاء الستور..
أما توثيق هذا الزواج لدى العدول الرسميين، أو المحاكم أو البلديات أو غيرها من المؤسسات الإدارية المهجرية، فأمر لا يدخل في حقيقة الزواج وماهيته وليس عنصرا ذاتيا فيه، وإنما هو إجراء إداري قانوني، القصد منه : ضمان حقوق الزوجين وحفظها من الضياع، لا سيما في حالة الموت أو النزاع.
ولا يلزم أحد الزوجين من شروط الآخر في الزواج إلا ما أقره الشرع، وأما الشروط التي لا يقرها فهي باطلة لا غية لا تلزم المشرط عليه. لقوله (ص) : “كل شرط ليس في كتاب الله تعالى فهو باطل”(أخرجه أبو داود في العتاق. والترمذي في الوصايا. والنسائي في البيوع).
والزواج أمر معظم عند الله تعالى، فيجب تعظيمه وتوقيره وتنزيله منزلته التي وضعه الله فيها. ومن مقتضيات ذلك : القصد والجد في إيقاعه. ومن ثم فلا يليق بالمسلمين في المهجر أن يعقدوا الأنكحة الصورية التي لا يقصدون تحقيق آثار النكاح فيها، بل يتوسلون بها لتحقيق مصالح وأغراض لاصلة لها بعقد الزواج.
وأما الزواج بغير المسلمة : فالأصل فيه الإباحة إذا كانت من أهل الكتاب، لقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين}(المائدة : 5)
ولكن هذه الإباحة قد تنقلب إلى حظر إذا كان هذا الزواج سيفتن الزوج عن دينه، أو يفسد عليه أولاده ويبدل دينهم، وهذا هو واقع كتابيات هذا العصر إن كان فيه كتابيات، وإلا فقد حرف اليهود والنصارى كتبهم السماوية فلم يعد هناك اليوم لهم كتاب فضلا عن أهل الكتاب.
وإذا أضفنا إلى ذلك أثر قوانين بلاد المهجر على المسلم وبيته ومستقبله حينما يتزوج بنصرانية، وانعكاسات هذا الزواج على المسلمات المومنات وما يسببه لهن من كساد وبوار، فإننا لا نتردد في منع هذا الزواج وحظره على المسلم درءا هذه المفاسد.
وأما زواج المسلم بالكافرة، وزواج المسلمة بالنصراني أو الكافر، فذلك كله لا يجوز بحال، لقوله تعالى : {ولا تنكحوا المشركات حتى يومن ولأمة مومنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يومنوا ولعبد مومن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون}(البقرة : 221)
2- الأولاد :
المقصود من الزواج الإحصان والإنجاب، فالإحصان لعفة المسلم وأمنه من الفاحشة والعنت، والإنجاب لحفظ النسل وتكثير سواد المسلمين. والمجتمع الأوربي ـ كما تقدم ـ مليء بعوامل الفساد والتفسخ، فعلى المسلم المهاجر أن يعي ذلك ويدرك خطورته، ويحصن أولاده منه منذ صغرهم، وذلك بتربيتهم على الاسلام، وترسيخ قيمه ومبادئه في نفوسهم، وحملهم على مكارمه وفضائله، وتنشئتهم على حب الله ورسوله والمسلمين، وبغض الكفر والكافرين، وتعليمهم أساسيات الدين وآدابه منذ مرحلة تمييزهم، حتى لا يدركهم البلوغ إلا وهم يفقهون ما يجب عليهم، وما يحرم. وما يلزمهم من حقوق الوالدين وحقوق البيت كافة.
وما لم تكن هذه الحصانة التربوية التعليمية الاسلامية، فإن المسلم لا يأمن على أولاده من أن يجرفهم تيار المجتمع الأوربي. وقد يعاني بعد بلوغ أولاده من عصيانهم وعقوقهم وطغيانهم، فعليه أن يتدارك الأمر قبل أن ينفلت من يده.
3- الطلاق
إذا تعذرت العشرة بين الزوجين أو عسرت استدامتها بينهما أو كان بيتهما في وضع لا يقبله الشرع، فقد شرع الله الطلاق حلا لذلك وحسما لأصوله.
وللطلاق أحكام وآداب إسلامية يجب الالتزام بها، سواء في البلاد الاسلامية أو المهجرية، وإذا وجدت حقيقة الطلاق وماهيته، وتوفرت عناصر تكوينه، فقد لزم الزوجين، وعليهما أن يقفا عند حدوده ويلتزما بأحكامه وآثاره. ولا يؤثر في ذلك توثيقه أو عدم توثيقه، ولا طريقة توثيقه، لان ذلك إنما هو إجراء قانوني إداري ينبني عليه ضمان حقوق الزوجين كما في الزواج.
فإذا كان المسلم في كامل قواه العقلية، وطلق زوجته بإرادته وطواعيته وقصده، فقد لزمه الطلاق، وسواء وثق ذلك عند العدول المنتصبين للعدالة، أو في القنصلية، أو في البلدية أو في المحكمة، أو في أي مؤسسة إدارية أخرى. أو لم يصرح بذلك أصلا، فإن ذلك كله لا يغير من الأمر شيئا، فهو قد لزمته طلقة واحدة، وامتلأت بها ذمته.
وفي مقابل ذلك، إذا أصدرت المحكمة قرار الطلاق في حق مسلم مهاجر، بناء على ما تقتضيه قوانينها فإن ذلك لا يلزمه شرعا إذا لم يصدر منه ما يوجد حقيقة الطلاق، وتبقى زوجته في عصمته بمقتضى الشرع، ولا عبرة بقرار المحكمة.
والطلاق ـ أيضا ـ من الأمور التي لا مدخل فيها للهزل أو التحايل.. لذلك فلا يليق بالمسلم المهاجر أن يباشر ما يسمى بالطلاق الصوري، لأن الطلاق جده جد وهزله جد، فإن فعل فقد لزمه.
4- الإرث :
من المعلوم أن نظام الإرث في القوانين الأوربية ليس كنظام الإرث في الاسلام، فالإرث في القوانين الأوربية ينسجم مع طبيعة الحياة الغربية المادية وينبثق نظامه نم الفكر البشري وفلسفته. أما نظام الإرث في الاسلام فهو يعكس الفكرة الاسلامية وينسجم مع تصور الاسلام للحياة والمال والعلاقات الاجتماعية، ومع قيمه ومبادئه ومضامينه.
والالتزام بالتشريع الاسلامي في الإرث أمر مفروض على المسلم في بلاد المهجر كفرضية الصلاة والصيام والزكاة.. وكونه محكوما بقانون بلاد المهجر، لا يحول بينه وبين تطبيق أحكام الإرث وفق ما هو مقرر في الشرع، لان قسمة التركة وإخراج حقوقها وفق الشرع، أمر داخلي يخص الورثة أنفسهم، ولا تتدخل الدولة إلى عند النزاع والمقاضاة.
وحتى إذا صدرت المحكمة قرارها بقسمة التركة وفق قوانينها، فإن ذلك لا يلزم الورثة (المسلمين) شرعا، وعليهم أن يعيدوا القسمة من جديد وفق ما هو مقرر في شرع الله.
5- الجوار : ومن القضايا التي تعترض المهاجر في بلاد المهجر : جواره للكافر والمشرك والنصراني. وهذا أمر ليس بالمستحدث على المسلمين، فقد جاور سلفهم وخلفهم اليهود والنصارى والفساق والعصاة, وأثروا فيهم بسيرهم وسلوكهم الاسلامي، حتى لقد أسلم من أسلم، واستقام من استقام، وتاب من تاب، ومن ثم فلا حرج على المسلم أن يجاور غير المسلم.
وحقوق الجوار كما تثبت للمسلم، تثبت لغير المسلم لأن الشارع حينما أمر بحسن الجوار لم يخص في ذلك المسلم دون غيره، وتتلخص حقوق الجار في الإحسان إليه وكف الأذى عنه.
والمسلم حينما يلتزم للجار (النصراني أو الكافر أو الفاسق) بحقوقه، إنما يفعل ذلك التزاما بدينه وسمعا وطاعة لربه عز وجل، لا محبة للجار وتوددا إليه، لأنه إن فعل ذلك محبة وتوددا فقد والاه وموالاته حرام، لقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء}(المائدة : 51). وقوله أيضا : {لا يتخذ المومنون الكافرين أولياء من دون المومنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة}(آل عمران : 28)
6- التجنس :
من القضايا التي تواجه المسلم في بلاد المهجر : حمله لجنسية أوربية، ونعته بمقتضى ذلك بأنه : فرنسي أو إيطالي أو ألماني..
وهذه المسألة لا حرج فيها عليه، لأنها إنما هي إجراء قانوني يمكنه من التمتع بحقوقه المدنية بالبلد الذي يحمل جنسيته. والانتساب إلى بلد ما ـ بمقتضى وثيقة الجنسية ـ لا يعني الانتساب إلى دينه وعقيدته، الا ترى أن أبناء ذلك البلد ت الأصليين ـ إذا أسلموا لم يكن بضارهم ولا بمنتقص منهم شيئا أن يبقوا منتسبين إلى بلادهم. ثم إن الأصل في كل جزء من الأرض أن يكون مسلما، فوجود الكفر فيه خلاف الأصل، ثم إن الأرض كلها لله، فحيثما وجد المسلم فهو في أرض الله، وحيثما انتسب المسلم فقد انتسب إلى أرض الله.