الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وآله وصحبه ومن والاه
أما بعد فإن كثيرا ما نسمع في مجالس إسلامية عامة خاصة بعض الاخوة يتحدثون عن الاسلام ومبادئه ومزاياه. وعن ضرورة التزام آداب الاسلام وأخلاقه في المظهر والمخبر. ويذكرون مثالا لذلك >اللباس< قائلين إن على المسلم أن يلتزم بلباس >السنة< وقد أثار هذا الأمر -لباس السنة- انتباهي خصوصا عندما سمعت بعض الاخوة يكرر هذا اللَّفْظَ أكثر من مرة. فبدأت أتساءل عن >لباس السنة< ما لونه؟ وما طوله؟ وما عرضه؟ وعلى أي نوع من أنواع الملابس يصدق هذا اللفظ في البلاد الاسلامية؟ هل يصح إطلاقه على البرنوس التونسي؟ وإذا صح ذلك فهل يصح إطلاقه على الجلباب المغربي أو العباءة الجزائرية؟ أو اللباس الباكستاني القصير؟ ام على اللباس المصري التركي؟ أم على اللباس الخليجي الذي يصنع في الصين >الشيوعية< وماهي العمامة السنية؟ أهي ذات الذؤابة الطويلة كعمائم الأفغان؟ أم العمامة الخفيفة كعمائم >الأزهريين< أم هي ذات العقال الأسود الغليظ؟ أم العمائم الكبرى التي يتعمم بها شيوخنا في الصحراء؟ إن إطلاق لفظة >لباس السنة< هكذا بلا تحديد ولا توضيح يوقع في لبس شديد بل قد أوقع في ذلك فعلا. فقد رأينا وسمعنا من يحرم أنواعا من الملابس لا يقوم على تحريمها دليل من كتاب ولا سنة، ولكن لأنه سمع لباس السنة فتصور أن لباس السنة هو قميص فضفاض وسراويل عريض ولقد رأينا أقواما في هذه الديار -ديار الغرب- يلبسون ملابس مضحكة للاعداء مبكية لأهل الغيرة على الدين والكرامة!! ويزعم هؤلاء الموتورون أن هذا >لباس السنة< هذا سبب دعاني للكتابة في هذا الموضوع لتحديد مفهوم هذا المصطلح وسبب آخر وهو أن المسلم ملزم باتباع السنة والاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فلابد من معرفة لباس السنة ليلتزم به ولباس البدعة ليجتنبه امتثالا لقوله تعالى >لقد كان لكم في رسول الله إسوة حسنة< سورة الأحزاب آية 21 وقوله تعالى >فليحذر الذين يخالفون عن امره أن تصيبهم فتنة او يصيبهم عذاب اليم< سورة النور آية 63.
وسبب ثالث وهو أن كثيرا ممن نلتقي بهم من الغربيين أساتذة كانوا أو طلابا أو أطفالا -رجالا ونساء- يبادرونا بالسؤال عن اللباس الذي نلبسه -وهو في غالب الأحيان الزي المغربي- أهو لباس الاسلام؟ بمعنى هل الاسلام هو الذي يفرض عليكم هذا النوع الخاص من اللباس فكنت أجيبهم دائما بأن أمر اللباس في الاسلام أمر واسع جدا وأن هذا اللباس الذي نلبسه هو لباس قومي فقط. فإن الاسلام يفرض في اللباس أن يستر العورة وكفى. هذه الأسباب الثلاثة هي التي جعلتني أتناول هذا الموضوع. وقبل الخوض في التفاصيل أحب أن أزيل شبهة قد تعلق بذهن الكثيرين وهي أن المسلم ينبغي أن لا يذوب في المجتمات الغربية وأن يحافظعلى شخصيته الحضارية. والتميزُ في اللباس أحد مظاهر المحافظة على الشخصية الحضارية للمسلم. وأقول بأنني مؤمن بهذه الفكرة -فكرة المحافظة على الشخصية- تماما. ولكن على أساس من الشريعة نفسها فإن الغلو في هذه المحافظة يرفضه الاسلام نفسه -نظريا وتطبيقيا- فمن الناحية النظرية نجد أن الاسلام الحنيف جاء بِرَفْعِ الحرج عن الناس وتخفيف الأثقال والاغلال والآصار التي كانت على الأمم السابقة. ولذلك فإن التنطع في الدين والتشدد فيه يتنافى مع هذا المبدإ الأساسي في الشريعة >اليسر ورفع الحرج< وأدلة هذا المبدإ مستفيضة في الكتاب والسنة فلا حاجة إلى ذكرها.
أما من الناحية العملية فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَبل رأي سلمان الفارسي في حفر الخندق في غزوة >الأحزاب< وهو أمر لم يكن معروفا عند العرب وكان من الخطط الحربية في بلاد فارس. وقد دون عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الدواوينواختطَّ الأمصار. ولم يكن ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي بكر رضي الله عنه وقد أقر عمر رضي الله عنه معاوية بن أبي سفيان على ما اتخذه من وسائل تعظيم الخلافة والامارة -تشبها بالروم بلا غلو طبعا- لما رأى حجته واضحة. وأوضح من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتما لختم الكتب عندما قيل له إن الملوك لا تقرأ كتابا غير مختوم ولم يثبت فيما أعلم -وما أعلم لا يسمى علما-أن الفاتحين المسلمين كانو يحملون معهم أدواتهم من البادية العربية أو الحاضرة إلى البلدان التي يفتحونها ثم ينكمشون على أنفسهم في تلك المجتمعات بل الثابت عكس ذلك تماما فقد لبسوا الملابس القبطية والفارسية والرومية. واتخذوا القصور والضياع وهم صحابة أجلاء. فدل ذلك على أن الاسلام لم ينه عما ينفع الناس و>أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها< تلك شبهة أحببت أن أزيلها من طريقي حتى أتفرغ لتوضيح هذا المصطلح فيما له وما عليه.
أولا: اللباس في القرآن
ان المتتبع لآيات القرآن الكريم في شأن اللباس يجد أن القرآن قد أوضح أهداف اللباس ومقاصده ويمكن أن نجمل هذه الأهداف والمقاصد في أربعة أمور :
1- ستر العورة : وهو هدف أساسي في اللباس. بل هو أهم الأهداف لأن الله سبحانه وتعالى كرم الانسان وميزه عن الحيوان فلا يليق به أن يبقى مكشوف العورة لأن ذلك يتنافى مع إنسانيته. وإذن كل لباس لا يؤدي هذه الوظيفة لا يعتبر مقبولا من الناحية الشرعية. ودليل هذا الهدف قوله تعالى >يابني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير< سورة الأعراف آية 26 ففي هذه الآية دليل على الأنعام وستر العورة كما قال القرطبي. والاجماع منعقد على وجوب ستر العورة عن أعين الناس.
2- الزينة والتجمل : فإن الله يحب أن يرى أثر نعمه على عبده وهو سبحانه جميل يحب الجمال. وقد أشار القرآن إلى هذا المعنى في قوله -تعالى- >يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد< الأعراف آية 31 قال الأستاذ الصابوني : >أفخر ثيابكم وأطهرها< وإليذلك أشار الألوسي عندما قال : >وحمل بعضهم الزينة على لباس التجمل لأنه المتبادر منه< ويوخذ هذا المعنى -معنى الزينة- أيضا من الآية السابقة فإن فيها >وريشا< قال الألوسي في معناه >أي وزينة أخذا من ريش الطائر لأنه زينة له وعطفه على هذا من عطف الصفات، فيكون اللباس موصوفا بشيئين “مواراة السوأة والزينة”< روح المعاني م 3 ص 108.
3- الوقاية من الحر والبرد : فإن من نعم الله على الانسان أن رزقه العقل والفهم والادراك ليقيم حياته على المنافع والمصالح. وهيأله وسائل الراحة والسعادة ولم يتركه كالعجماوات لا تستطيع أن تدفع عن نفسها حرا ولا قرا. وإلى هذا الافضال والانعام والاكرام تشير الآية الكريمة من سورة النحل >والله جعل لكم مما خلق ضلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون< النحل آية 81 والاشارة إلى المعنى المراد في الآية قوله >وسرابيل وهي جمع سربال : وهو كل ما سترمن صوف أو وبر أو شعر أو كتان أو قطن تقيكم الحر<قال ابن العربي : أراد والبرد فحذف لأن ما يقي أحدهما يقي الاخر وهذا يسمى عند البلاغيين الايجاز بالحذف..
4- الوقاية من السلاح في الحرب : وهذا تشير إليه الآية التي نحن بصددها >وسرابيل تقيكم بأسكم< قال ابن العربي بمعنى دروع الحرب. وقال الشيخ الصابوني : أي ودروعا تشبه الثياب تتقون بها أعداءكم في الحرب وقد أشارت إلى ذلك آية أخرى في سورة الأنبياء >وعلمناه صنعة لبوس لكم ليحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون< الأنبياء آية 80 والمعنى أن الله علم داوود عليه السلام صناعة الدروع الحديدية ليتقي بها شر الأعداء في القتال. وقد كانت ملابس تلبس في الزمان الماضي قال كعب بن زهير في بردته
شم العرانين أبطال لبوسهم
من نسج داود في الهيجا سرابيل
وتلك والله أعلم المقاصد الأساسية للبس في القرآن الكريم. فكل ثوب انطبقت عليه الصفات السابقة جاز لبسه للمسلم وهو لباس سنة وليس لباس بدعة إلا ما استثني لمعنى خاص كلباس الشهرة أو الحرير.