1- المنطلقات :
تنطلق حركة الدعوة الإسلامية المعاصرة من جملة من الموجبات الشرعية والواقعية، أهمها :
1- فرضية التبليغ والدعوة. فالأمة الإسلامية بمجموعها مكلفة بتبليغ رسالة الإسلام، ودعوة الناس إليه (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرمة أنا ومن اتبعني). ومما يؤكد هذه الفرضية كون هذه الأمة هي آخر الأمم، وهي الشهيدة على الأمم، باعتبار أنه لا نبي ينتظر بعد نبيها محمد صلى الله عليه وسلم (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونو شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)
(وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس) (يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصارا لله كما قال عيسى بن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله)
وكل هذا يستلزم أنواعا من الجهاد لنصرة الدين والدفاع عن قضاياه، والعمل من أجل بقائه ومزيد من انتشاره وعلو كلمته…
2- وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح لله ولرسوله ولكتابه، ولائمة المسلمين وعامتهم، وتبلُغ النصوص في هذا الباب -كثرة وشهرة- حدا يفوق الحصر، ويستغني عن ذكرها في هذا العرض.
3- وجوب الإهتمام بأمر الأمة الإسلامية، أمة الرسالة والأمانة، إصلاحا لأحوالها، وتقوية لجانبها، ودرءاً لكل فساد يدب في جسمها. قال الله عز وجل (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين. واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم، واتبع الذين ظلموا ما اترفوا فيه وكانوا مجرمين. وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون).
وفي الصحيح عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا علي سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا ولم نؤذ من فوقنا. فإن هم تركوهم هلكوا جميعا، وإن هم منعوهم نجوا ونجوا جميعا).
4- الواقع المزري للأمة الإسلامية، وهذا الواقع السيئ نشأ وترسخ عبر قرون عديدة، وقد وصل في عصرنا هذا إلى أسوإ مما يحتمل، وليس وراءه إلا انهيار الأمة وتلاشي مكانتها ورسالتها. وهو ما لا يجوز لمن في قلبه ذرة إيمان أن يركن إليه أو يسكت عنه، أو يتركه يمضي.
وإذا كانت الأوضاع الموروثة، المثقلة بالأمراض والعيوب، قد عجزت عن إصلاح حال الأمة وإنهاضها وإعادتها إلى عزها ورسالتها، فإن الحلول المستوردة، التي جربت في كل الأقطار الإسلامية منذ نحو قرن من الزمن، كانت أكثر عجزا وأشد فشلا، وزادتنا مرضا على مرض، وعقدت سبيل النهوض والإصلاح.
وفي هذه الأوضاع المظلمة، تحركت دعوات إسلامية، بعيدة النظر، أصيلة المنزع، بروح جهادية تجديدية، فأنعشت النفوس، وأيقظت العقول، وأحيت الآمال…
2- الأهداف :
لعل أجمع كلمة لأهداف الدعوة الإسلامية هي (إقامة الدين) وهي الكلمة التي تضمنتها الآية الكريمة التي تلخص رسالات الأنبياء جميعا، وهي قوله سبحانه (شرح لكم من الدي ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك، وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تفرقوا فيه) إلى أن قال في الآية بعدها : (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم).
وإقامة الدين المأمور بها في الآية، تشمل إقامة كل ما جاء به الدين أو دل عليه وأرشد إليه.
فمن إقامة الدين، إقامة عقائده صحيحة كاملة، حية مؤثرة.
ومن إقامة الدين إبطال المعتقدات الفاسدة، ومحاربة البدع الضالة…
ومن إقامة الدين إقامة أركانه وإظهار شعائره وجعلها مصونة معظمة.
ومن إقامة الدين تثبيت قيمه وأخلاقه، وآدابه وسننه.
ومن إقامة الدين إشاعة التفقه فيه وفي أحكامه بين جميع الناس.
ومن إقامة الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإشاعة روح الإصلاح ومقاومة الظلم والفساد.
ومن إقامة الدين إقامة نظمه ومؤسساته العامة، بحيث تكون جميع النظم السياسية والتعليمية والإعلامية، والإقتصادية، والعسكرية والإجتماعية، نابعة من الإسلام محكومة به، وجميع التشريعات أيضا نابعة من الشريعة الإسلامية، ملتزمة بمقاصدها وأصولها وقواعدها.
وبعبارة أخرى إقامة الدين تعني إقامة مجتمعم إسلامي في أفراده، وأسره، وعلاقاته، وشؤونه، العامة، ثم السعي بهذا النموذج لإقامته حيث ليس قائما.
وواضح أن هذا الهدف، أو هذه الأهداف، تتطلب أعمارا، ليست أعمار الأفراد فحسب، بل أعمار الأجيال والأمم. كما أنها متشبعة طولا وعرضا…
ولهذا فإن العمل في إطار تحقيقها أو السعي إلى تحقيقها، لا بد وأن يكون متبعا لسنة التدرج، وهو ما يقتضي تقسيم العمل إلى مراحل وأجزاء…
3- الوسائل :
يعتبر العنصر البشري هو أهم الوسائل وأسماها لكل إصلاح منشود، ولهذا كان لابد أن يتجه العمل الاصلاحي في مرحلته الاولى إلى تربية الانسان وتكوينه وصياغته صياغة تؤهله لقيادة الاصلاح العام في المجتمع.
الا ان هذه الوسيلة لن تكون فعالة ولا مكافئة لما هو مطلوب ومنشود، الا إذا اتخذت شكل كتلة منظمة، متماسكة، متراصة، تلتقي فيها الآراء والاجتهادات، وتتضافر فيها الجهود والامكانات، ومن هنا فإن الوسيلة الاولى المعول عليها بصفة أساسية لتحقيق المشروع الاصلاحي والنهضوي للحركة الاسلامية هو العمل الجماعي المنظم المنضبط.
كما أنه بالنظر إلى سعة الاهداف وتنوعها، ينبغي إيجاد أشكال من العمل الموازي، ومن العمل الجزئي، ومن العمل المتخصص، على أن توجه هذه الاعمال بحيث تصب كلها في مصب واحد، وهو خدمة القضية الاسلامية.
وفي هذا وذاك ينبغي الاخذ بالاساليب المستحدثة، والاشكال القانونية، والاستفادة مما تتحيه اكثر ما يمكن.
ومن الوسائل التي لا ينبغي إهمالها، وسائل كثيرة جدا، قائمة بالفعل في المجتمع ومؤسساته وهيئاته. فيجب السعي إليها، والعمل على تحريكها وتشغيلها في خدمة الاسلام والامة الاسلامية.
وبصفة عامة ينبغي العمل على تحريك طاقات الامة واهتماماتها، في نطاق مدنهم وأحيائهم، وفي نطاق مهنهم وقطاعاتهم، وفي نطاقات اوسع..، ويجب أن نعلم ان تأثير الدعوة سيظل محدودا ومحصورا ما لم تصبح هما شاغلا لفئات عريضة من المجتمع، يعمل له كل من موقعه، وكل بمبادرته، وكل على شاكلته، ولكن المصب واحد.
ثم ان الوسائل والاساليب يجب ان تظل مرنة، قابلة للتطوير والتوسيع والتكيف مع المستجدات. ولا ينبغي ان تتعرض لأي حصر ولاحجر. ولذا يجب فتح الباب أمام كل وسيلة تحقق جزاءا من أهداف الدعوة، أو تخدمه، او تسهل تحقيقه وتقربه، بشرطين اثنين لا غير :
الاول : ان تكون الوسيلة جائزة شرعا. هذا مع العلم ان بعض الوسائل هي محل اختلاف علمي في جوازها وعدمه، كما ان بعض الوسائل يختلف جوازها وعدمه، باختلاف الاحوال. فإذا كانت الوسيلة من هذا القبيل أو ذاك، وجب عرضها على أهل العلم بالدين والواقع.
الشرط الثاني : ان يمر العمل بها عبر التشاور والاقرار الجماعي، وذلك حرصا على مزيد من ضمان المشروعية، وعلى ضمان الرشد والصواب والسلامة في الاستعمال الظرفي للوسيلة.
4- العلاقات :
الدعوة الاسلامية، وهي تتحرك في المجتمع، وتخاطب كل فئاته، وتقتحم مختلف شؤونه ومجالاته، لابد ان تحتك بمكونات هذا المجتمع، ولابد ان تقيم معها اشكالا من التعامل ومن العلاقات ولذا لابد لأهل الدعوة ان يكونوا على بينة من مختلف مكونات المجتمع، ومن مختلف القوى العاملة فيه، ولابد ان يكون لهم تقويم وتقدير لكل القوى ذات الحضور والتأثير، حتى يتسنى لهم تحديد نوع العلاقة التي ينبغي لهم اقامتها مع هذا الطرف أو ذاك. فإذا تحققت المعرفة الدقيقة والعميقة لكل القوى المؤثرة في المجتمع والمتحكمة فيه، وجب النظر اليها والحكم عليها حسب موقفها من الاسلام : موقفها المبدئي، وموقفها الفعلي.
فكل جهة أقرت بالاسلام جملة وتفصيلا، وأقرت بمرجعيته العليا في كافة شؤون البلاد والعباد، ثم اقامت فكرها وسلوكها وموقفها ومشاريعها ومطالبها بناء على ذلك، فهي جهة إسلامية، يجب موالاتها والتعاون معها على البر والتقوى، حتى ولو كان يوجد اختلاف معها في بعض الامور الاجتهادية، أو كان الجانب العملي عندها مشوبا بشيء من التقصير والنقص.
وكل جهة لا تعلن إيمانها بالاسلام وإقرارها بمرجعيته العليا، ولا ينعكس ذلك في فكرها وآرائها ومواقفها وسلوكها ومطالبها، فليست بجهة اسلامية. وهذا الارتباط بها يكون على أساس رابطة الدعوة والحوار، او رابطة تفاهم وتعاون محدودين اذا كان في ذلك مصلحة معتبرة شرعا.
وكل جهة تعلن إيمانها بالاسلام وترفع شعاراته، ولكنها لا تلتزم بمرجعيته، ولا تتقيد بمقتضياته، وتمارس نقضه وبث ما يخالفه ويقصيه، فهي جهة منافقة يجب الحذر منها والتصدي لنفاقها وخداعها وإفسادها. وهي عقبة في طريق الاسلام.
وكل جهة تعادي الاسلام كلا او جزءا، او ترفض منه شيئا قطعيا وتستبدل غيره به، او تمارس -قولا او فعلا- نوعا من التحقير للدين وأحكامه وشعائره ومقدساته، فهي جهة كفر وعداء، فيجب النظر اليها ومعاملتها على هذا الاساس.
وفي إطار هذه الاسس والمبادئ العامة، يتعين تحديد نوع العلاقة مع كل فرد او هيئة، مع النظر في ذلك إلى الاعتبارات والمعطيات الظرفية، ومن ضمنها واقع الدعوة ومستواها وإمكاناتها…
وعلى العموم، يجب على اهل الدعوة ألا يبادروا إلى المعاداة، الا لمن لا مفر من معاداته.
ويجب ان يجتنبوا -ما وجدوا إلا ذلك سبيلا- استفزاز أعدائهم أو تأجيج عداوتهم.
ويجب ان يسعوا إلى كسب العاطفين والمؤيدين، حتى ولو كانوا مخالفين.
ويجب الامتناع كلية عن كل تعاد او تصارع مع الجهات الاسلامية. بل يجب ان يكون معها أقصى مايمكن من أشكال التعاون والتآزر والتوحد.
ويجب أيضا إقامة علاقات المودة والرحمة، وعلاقات الثقة والتضامن مع عامة أفراد الأمة وفئاتها، فهم لا يزالون على إيمانهم بدينهم وولائهم، ورغبتهم في سيادته وعلو كلمته. وينبغي النظر إلى ما يسود الأمة من جهل وغفلة وتقصير وانحراف، بعين الاشفاق والتفهم للأسباب التي أفضت بهم إلى ذلك.