مشهدان
متغايران
التاريخ وما يزخر به من أحداث عبرة لمن اعتبر وذكرى لمن اذكر، فكل حَدَثٍ مَرَّ، يمكن أن يكون دَرْساً على مر العصور، تستنبط منه العبر، حتى لا يتكرر إن كان مأسويا، أو حتى تنتهج أسبابه وطرقه ليتكرر بصورة أفضل إن كان إيجابيا، ولذلك قص الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز قصص الأنبياء السابقين والامم الغابرة، وساقها بأسلوب اعتباري أخاذ حتى يعتبر كل من تدبر القرآن .
لكن الأحداث التاريخية ليست الوحيدة التي يمكن أن تؤخذ منها العبرة. فحتى المشاهد اليومية التي نشاهدها كل صباح ومساء يمكن أن ترقى إلى درجة الأحداث التاريخية، حتى وإن لم تظهر نتائجها بشكل نهائي خاصة إن كان المشهد مفرحاً أو مؤلما، أومتعلقا بشعب بأكمله، أو بمقدسات الأمة ومعتقداتها، إلى غير ذلك.
وأغرب مشهد ترك بصماته في ذاكرتي، مشهد في باحة استراحة بإحدى الطرق السيارة في أوربا، لقد كان أبطال المشهد بضعة أشخاص من الفتيان والفتيات المنحدرين من إحدى الدول العربية ويحملون أسماء اسلامية، لكن أدوارهم التي أدوها في هذا المشهد، تتنافى ومعتقدات شعبهم، إذ أنهم طعموا في استراحتهم تلك حراما وشربوا حراماً، وتمتعوا بالحرام وفي كل ذاك كانت موسيقى صاخبة تنبعث من سيارتهم التي كانوا يستقلونها.
إن المشهد لا يحتاج إلى تعليق كما هو، فهو غني عن ذلك، ولكن الطريف أنه من غريب المفارقات، وبعد عودتي في هذا الطريق بالذات، واستراحتي في نفس الباحة، ملأ عيني مشهد آخر، بضعة أشخاص يؤدون الصلاة جماعة، ووراءهم نسوة في ثيابهن الإسلامي، وبعد الصلاة سمع من مذياع السيارة تسجيل لآيات من الذكر الحكيم، ولم يزد طعامهم على شيء من الخبز وقطعة من الجبن وكأس من الحليب، والمفارقة هنا تكمن في أن أبطال هذا المشهد من أصل أوروبي، لم يرضعوا في أمهاتهم لبنا عربيا أو إسلاميا ولكن الله هداهم بعد ذلك، وصدق الله العظيم إذ يقول : >فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها كافرين< أو قوله عز وجل : >وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم<.
د. عبد الرحيم بلحاج