خلاصة السيرة النبوية لا بن هشام
نصوص ودروس(8)
حرب الفِجَار
أ- قال ابن هشام
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة أو خمس عشرة سنة ….] هاجت حرب الفجار بين قريش، ومن معهم من كنانة، وبين قَيْس عَيْلان. وكان الذي هاجها أنَّ عُروَة الرَّحَّال بن عُتْبَةَ ….] بن هوازن، أجار لطيمة (حمى قَافِلَةً تجارية من الأخطار) للنُّعمان بن المنذر (أحد ملوك الحيرة، وكان يُرسل في كل عام لطيمة إلى سوق عُكاظ) فقال له البَرَّاض بن قَيْس، أحد بني ضَمْرَة ….] ابن كنانة : أتُجيرُهَا على كنانة، قال : نعم، وعلى الخلق، فخرج فيها عُروة الرَّحَّال وخرج البرَّاض يطْلب غَفْلَته، حتى إذا كان بتَيْمَن ذي طِلال (وادٍ بعالية نَجْدٍ) بالعالية. فلذلك سُمِّيَ الفِجَار…]
قال ابن هشام فأتى آتٍ قريشا، فقال : إنّ البَرَّاض قد قتل عُرْوة، وهم في الشهر الحرام بعُكاظ، فارتحلو وهوازن لا تَشْعر، ثم بلغهم الخبر فأتْبعوهم، فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم، فاقتتلوا حتى جاء الليل، ودخلوا الحرمَ، فأمسكت عنهم هوازن، ثم التَقَوْا بعد هذا اليوم أياما، ….]
وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض أيامهم، أخرجه أعمامه معهم. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كنت أُنَبِّل على أعمامي : أي أردّ عليهم نَبْلَ عدوّهم إذا رَمَوْهم بها.
ب- مما يستفاد من النص :
1- أن الحِسَّ الديني لدى العرب قبيل الاسلام كان قويا ولاسيما لدى القرشيين ومَنْ حولهم ولذلك سَمَّوا الحرب التي >هجت< بينهم >في الشهر الحرام< >حَرْبَ الفِجَار< لِهَتْكِهِمْ فِيهَا حُرْمَةَ >الشهر الحرام< وفُجورهم بالاقتتال فيه. وإلى مثل ذلك مما سيأتي بعد الهجرة يشير قوله تعالى : >يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه< (سورة البقرة)
2- أن النَّعْرَةَ القَبَلَيَّة لديهم كانت طاغية؛ يُنْتَهَكُ من أجلها الدين وان كان قويا، وتهيجُ الحروب بين القبائل-وإن في الأشْهُرَ الحُرُمِ- من أجل فرد! لا يسْأَلون أخاهُمْ حين يَنْدُبُهْمْ في النَّائِباتِ عَلَى مَا قال بُرْهَاناً! هذا شِجَارٌ يقع في مجلس الملك النعمان بين عُرْوة الرَّحَّالِ الهوازني القَّيْسِيِّ وبين البَرَّاضِ بن قَيْس الكناني تُقْحَمُ فيه القبيلة فتثور الحمِيَّةُ هكذا : >أتُجِيرُهَا على كِنَانَةَ؟ قال : نَعَمْ، وعَلَى الخَلْقِ< فَيَتَتَبَّعُ البَرَّاضُ عُرْوَةَ فيَقْتُلُه فَتَهِيجُ الحرب >في الشهر الحرام< بين >كنانة وقيْسِ عَيْلاَنَ<!! وتستمر >أياماً<
واذا كان الاسلام بعد شِعَارِهِ الخالد : >الله أكبر< قد صَغَّرَ كُلَّ مَا سِوَى الله عز وجل، وبكلمته المُوَحِّدَةِ الجامعة >لاإلاه إلا الله محمد رسول الله< قد صَهَرَ كُلَّ القبائل والشعوب المؤمنة به في بَوْتَقَةٍ واحدة هي الأُمَّة، مُطَهِّراً لها من جميع النَّعَرَاتِ والعَصَبِيَّات وكل النُّتُونَات، فإنَّ تَطَوُّرَ الأَهْوَاءِ عَلى مَرِّ التاريخ قد طَوَّرَ القَبَلِيَّات إلى وَطَنِيَّاتٍ وَقَوْمِيَّاتٍ، وأدْرَكَ أُمَّةَ الاسلام من ذلك ما أدركها بعد احتلال وشَتَاتٍ، فصارتْ “حُرُوبُ فِجَارٍ” تَهِيجُ بين المسلمين لاختلاف الاوطان والوطنيات. ألا ما أشْبَهَ قبائل ما قبل الاسلام بأَوطان هذه الايام!! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
3- أن “الأمن” في الجزيرة العربية كان منعدماً، لطبيعة الجزيرة نفسها القاسية، وصعوبة السيطرة على من فيها بغير مَنْ فِيها. و ها هو النعمان بن المنذر وهو ملك بالتاج يحتاج إلى مَنْ يُجِىرُ له بضاعته من الحيرة بالعراق إلى سوق عُكاظٍ بالحجاز لِتَسْلَمَ تِجَارَتُهُ ذهاباً وإِياباً من قُطَّاعِ الطُّرُقِ، ومع ذلك لاتَسْلَمُ وتَهِيجُ حَرْبٌ ولكن بفضل الاسلام الذي بدأت رحمته تتنزَّل في الجزيرة بعد رُبْعِ قرن من “حرب الفجار” وتمت نعمتُه عليها بعد نحْوٍ من ربع قرن آخر، صار الراكب يسير >من صنْعَاءَ إلى حَضْرَمَوْتَ لا يخاف إلا الله والذِّئْبَ على غَنَمِهِ< (جُزْءٌ من حَديث خَبَّابِ بن الأرث رضي الله عنه رواه البخاري) >فانْظُرْ إلى أثَرِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِي الارض بعد مَوْتِهَا<الروم].
4- أنَّ الموْقِعَ الديني لِأُمِّ القُرى وما حولها صيّرَهَا وما حولها ولاسيما في أشهر الحج مَرْكزاً للتجارة حتَّى الدولية، لتجمعات الحجيج من كل فَجٍّ، فظهرت فيها أسواق مَوْسِمِيَّةٍ ضخمة مثل عُكَاظ وغير عكاظ أدتْ وظائف تجارية وأدبية وغيرها، حتى إن ملكا كالنعمان >كان يبْعَثُ بِسوق عُكاظ في كل عامٍ لَطِيمَةً (=قافلة تجارية) في جوار رجل شريف من أشْرافِ العرب يُجِيرُهَا لهُ حتى تُبَاعَ هناك ويشتري له بثمنها… ما يحتاج إليه< (السيرة النبوية 1/184 هامش 4)
5- أنَّ من صُوَرِ التكوين والإعداد التي تلقاها “الغُلامُ والفتى الجفر” وهو لَمَّا يُجَاوِزْ خمس عشرة سنة، تَنْميةً لخِبْرَتِه، وبناءً لشخصيته شُهُود بعض معارك الحرب >أخْرَجَهُ أَعْمَامُهُ معهم<، وإسْهَامَهُ فيها بما يناسبه >كُنْتُ أُنَبِّلُ على أعماميِ<.
ولَعَمْرِي إِنَه لتكوينٌ أَيُّ تكوين للشباب بالحياة من الحياة للحياة حتى إذا جَدَّ الجِد-ُّ وهو جادٌّ كحال أطفال الحجارة رضي الله عنهم- لم يجد نفسه كمَنْ >يَنْشَأُ من الحليةِ وهُوَ عن الخصَامِ غيْرُ مُبِينٍ< ذكراً كان أَمْ أُنْثى.
وإن الله عز وجل إذا أراد بأُمَّةٍ خيراً قَيَّضَ لها من يُعِدُّ أبناءَها للخير، بالحياة في الحياة للحياة فكان الجِدُّ بَدَلَ الهزْلِ، وكان العلم بدلَ الجهل، وكان النهوض بدل القعود وسارت الامة سيْراً حثيثاً إلى مَوْقِعها الطبيعي في الشهود.
وإنه إذا أُريدَ بِأُمَّةٍ شَرٌّ سُلِّطَ عليها من يُعِدُّ أبناءهاللشر، باللهو في اللهو للهو فكان التَّخدير والتبذير، وكان الضياع وعدم المبالاة، وكان الإخْلادُ إلى الارض واتِّبَاعُ الهوى، وكان الجهل والفقر والمرض، وعُجِّلَ بجميع الغُثَاءِ الى موقعه الطبيعي في مقبرة التاريخ. >ألْهاكُمْ التَّكَاثُرُ، حَتَى زُرْتُم المقابرَ، كَلاَ سَوْفَ تعلمون، ثم كَلاَّ سوف تعلمون….<. الدكتور الشاهد البوشيخي