جذور المشكلة العلمانية والحلول الممكنة
مع التغيرات التي عرفها النظام العالمي مالت الكفة لصالح الإتجاه الليبرالي العلماني وتضاعفت مسؤولياته، وأصبح وحده يتحمل مهمة “الكفاح” ضد الصعود الإسلامي السياسي، فانفرد الخطاب العلماني وطغى في ساحة المعركة كطرف أوحد في مواجهة ومنازلة الإتجاه الإسلامي، وذلك بالقوة والعنف السياسي تارة -وهذا أسلوب النظم العربية الحاكمة- وبالعنف والإرهاب الفكري تارة أخرى وهذا أسلوب النخب المثقفة في منتدياتها وتآليفها وكتاباتها.
ومما تجدر الإشارة اليه-بحق- أن الخطاب العلماني لم يقتصر توظيفه على النخب والمثقفين العلمانيين، بل أصبح اليسار يعتمده ويتوسل به في عمله السياسي، كملاذ وستار يحجب عن الأنظار حالة تقهقره وإفلاسه الإيديولوجي، وكخطة/تكتيك، تغطي على القاعدة والبنية الإيديولوجية وتخدم برنامجه/استراتيجيته.
لذلك ونتيجة هذه الأوضاع التصادمية، انكب عدد من المهتمين بقضايا الثقافة والوحدة والديمقراطية في الوطن العربي، بدراسة ومعالجةالمشكلة أملا في البحث عن صيغ وأشكال لفض النزاع وإحلال الحوار والوفاق بين الأطراف المتباعدة : العلمانية والإسلامية، وإن المتتبع لما يكتب في هذه المسألة، ليقف معجبا أمام بعض الدراسات العميقة ذات الرؤية الناضجة والتي تتوافق إلى حد كبير مع خطة التغيير الحضاري في تعاطيها مع قضايا الشعب والسلطة والهوية.
وقبل عرض الحلول الممكنة للمشكلة، كما نرى وكما يرى ذلك ثلة من المفكرين والمهتمين، لا بد من الرجوع إلى الوراء لكشف جذور المشكلة، لأن ما يحدث في الحاضر -إيجابا وسلبا- لا بد وأن تكون له جذوره وأصوله الممتدة في الزمن الماضي من هذا المنطلق، يمكن القول إن مشكلة ترسخ الفكر العلماني في التربة العربية والإسلامية وحالة النزاع والإنفصال بين العلمانيين والإسلاميين ليست وليدة اليوم، بل هي امتداد لوضع سياسي تاريخي واستمرار له واستجابة لواقع اجتماعي وسياسي وثقافي مثقل بسلبيات حالة الإستلاب وعوامل التغريب.
نظرة تاريخية موجزة :
إذا تتبعنا البداية التاريخية لهذه المشكلة وجدناها تبدأ من بعد سقوط الدولة العثمانية لتمتد تداعياتها حتى وقتنا الحاضر.
إذ لما استتب الأمر للإستعمار الغربي في بلادنا خلال فترة الحرب العالمية الأولى وما بعد،عمل على تنشئة ثلة من أبناء المسلمين على المناهج التغريبية وهكذا وجد الإستعمار الأوربي من المثقفين العرب من كَفَوْهُ مُؤْنَةَ القيام بغرس فلسفته وثقافته في نفوس الأجيال المسلمة بصورة مباشرة، وهؤلاء هم الذين تولوا فيما بعد شؤون الحكم واعتلوا المراكز الحساسة في التربية والتعليم والسياسة، وتجندتْ طائفة منهم لرسم إطار المشروع الحضاري المطلوب تحقيقه وتم إحداث مؤسسات تحديثية تخدم هذا الإتجاه وتغطي على دور المؤسسات التقليدية الأصيلة.
وأمام التمزق والإحتلال الذي تعرضت له ربوع الأمة -بعد هزيمة الدولة العثمانية وسقوطها وتفتت أجزائها وتوزعها بين الأطماع الغربية في فرساي 1919م وفي لوزان 1922 م، وانبعاث الحركة التركية العلمانية -قامت حركات وطنية تقاوم الإحتلال فقادت المقاومة وكان الدين يصلح عندها لتحريك الشعوب وتثويرهم في وجه العدو الغاصب، فلم ترفع أبداً شعاراً علمانياً علانية إلا ما كان من أمر تركيا على عهد كمال أتاتورك، فكسبت بذلك ثقة الجماهير لتتكلم باسمها وتعبر عن مطامحها في الإستقلال، وتثبيت الهوية وتحكيم الشريعة ولما كانت النخبة المثقفة على درجة من الذكاء والحنكة السياسية -بمفهومها الميكافيللي- بدأت تخطب في كل نادٍ معبرة عن تصورها الذي عاهدت عليه الجماهير، فاعتقد الشعب، ما دام يسمع كلاما فيه قال الله/قال الرسول أن واقع الحال هو كذلك، بينما دأبت النخب في حل العقد ونقض العهد عملياً لا صوريا، ولم لا؟ وفقهاؤنا الأجلاء يصرحون بأن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالأشكال والمباني، فتحولت الثورات إلى نظم سياسية والحركات الوطنية الإستقلالية إلى مؤسسات حزبية، وكان كبش الفداء في تحولها هذا “الشريعة”.
وهكذا ظهر في بلادنا لأول مرة تيار علماني وطني في السياسة والفكر يتبنى معايير الإحتكام الغربية عوض معايير الإسلام وقوانينه، ومع مرور الزمن تعمق وتجدر المنهج الفكري العلماني من خلال المؤسسات السائدة، وتزعمه فقهاء ومفكرون وأدباء أمثال : علي عبد الرزاق، لطفي السيد، طه حسين، سلامة موسى، وكذا ساطع الحصري وميشل عفلق، وقد عزز هذا النفر والركب التغريبي في الوقت الراهن : محمد أمين العالم (من رموز الفكر الماركسي العربي) د. فرج فودة، مجدي رياض، المستشار محمد سعيد العشماوي…
ونتيجة هذه الأوضاع المهددة للهوية ومن منطلق الواجب والمسؤولية بدأت الدعوة الإسلامية حركتها رغم فقدانها لكثير من المقومات وتجردها من الأبنية السياسية التي تمثلها، وكانت نقطة الإرتكاز في تصور تيار الدعوة الذي ظهر وانتشر منذ الثلاثينات هي فكرة شمول الإسلام، هذه الفكرة/المقوم، التي كانت بمثابة استجابة تحدٍ لما حدث في الواقع السياسي والإجتماعي من إضمار للإسلام وحصره في نطاق العلاقة الباطنية بين الفرد وربه وتقييد الاسلام وحصره في حدود الشعائر، وهكذا نشط التحرك الإسلامي وتوالى ظهور الحركات والجماعات الإسلامية على امتداد الوطن العربي والإسلامي المتميزة بطرحها الشمولي للإسلام كعقيدة ومنهاج حياة.
على أن مشكل الإنفصال بين تيار العلمانية وتيار الدعوة الإسلامية الشمولية ظل قائما بل ازدادت الصحوة اتساعا، وهذا ما يتضح من خلال واقع النظم الحاكمة في مواجهتها للحركات الإسلامية وكذلك ما نلاحظه من حدة وجرأة أقطاب الفكر العلماني على الإسلام بدعم من النخب الحاكمة بالطبع.
ولعكس درجة الصراع و”لجس نبض” واقع الإنفصال وحالة الحدة والجرأة بل والهجوم على الشريعة وسياسة الإسلام، نحيل في جانب الواقع السياسي : إلى ما تشهده الساحة في كل من مصر والجزائر. أما في مجال الفكر والتنظير، فننقل هنا كلاما لعلمين من أعلام الفكر العلماني.
فهذا فرج فودة -الذي وصفه أحمد جودة في كتابه “حوارات حول الشريعة” بأنه علماني حتى النخاع- يقول >أعتقد أن الشريعة الإسلامية منهج سياسي بجانب كونها منهجا دينيا وفي السياسة لا توجد، قداسة، وهناك قاعدة إسلامية تقول : يجوز ارتكاب معصية اتقاء الفتنة، لذلك فأنا أقول : إذا كان عدم تطبيق الشريعة معصية فلتكن معصية نسعد بارتكابها اتقاء لما هو أسوأ وهو الفتنة الطائفية”.
وفي نفس الإتجاه وبنفس الأسلوب الماكر، يقول المستشار محمد سعيد العشماوي في أحدث كتاب له “الإسلام السياسي” أورد في مقدمته ما يلي : أراد الله للإسلام أن يكون دينا وأراد الناس أن يكون سياسة والدين عام أنساني شامل، أما السياسة فهي قاصرة محدودة قبلية محلية ومؤقتة<، ويضيف في وقاحة : >… فإن تسييس الدين أوتديين السياسة لا يكون إلا عملا من أعمال الفجار الأشرار أو عملا من أعمال الجهال غير المبصرين<ص5.
لكننا نقول لمثل هؤلاء إن العلمانية والإسلام ضدان لا يجتمعان لأن العلمانية مفهوم يلغي الشريعة من حسابه، ويقبل فقط بالعقيدة مجردة من مدلولها السياسي ومقتضياتها التشريعية ومستلزماتها القانونية، صحيح أن هذا المفهوم كان معطاءا للحضارة الغربية لكنه بالنسبة لمنظومتنا الحضارية بضاعة غريبة دخيلة، لأن مجتمعاتنا لا تعرف ازدواجية : الحياة من جهة والدين من جهة أخرى ولا تعرف منطق >دع ما لقيصر لقيصر ومام لله لله<.
كما لم تشهد الأمة في تاريخها ولا في وعيها مفهوم احتكار الدين لجهة أو أخرى، فقضية العلمانية بالمفهوم الغربي غير مطروحة ولا مقبولة ولا يحتملها واقع المجتمع الإسلامي. لأن قدر هذه الأمة : القرآن.
آفاق المشكلة والحلول الممكنة :
إن أكبر عائق يقف في وجه عملية التغيير وأكبر عقبة أمام أي محاولة لتصحيح الأوضاع وترتيب الأمور، وإحداث الوفاق والتفاهم هو غياب الوعي وانعدام إدراك كامل لحقيقة الإسلام أو إدراكها مشوهة، لأن قضية >الحكم بما أنزل الله< لم تأخذ محلها الحقيقي في حس وتصور المسلمين، وهذا هو السبب في التحول الخطير الذي حدث بهذا اليسر العجيب في حس المسلمين، إذ لو كان هناك وعي إسلامي حقيقي وإدراك واع حاسم لمقتضى الشهادتين، وأن الناس لا يكونون مسلمين حقا إذا رضوا بحكم غير حكم الله، لو كانوا كذلك ما سهل تحويلهم واستدراجهم إلى القضايا الوطنية على حساب الشريعة تحت شعار : >الدين لله والوطن للجميع<. كقاعدة لِحَظْرِ الدين في النشاط السياسي.
إن سبب المشكلة إذن، كامن في تصور المسلمين، فهم يتصورون الكفر البواح في التصريح بكلمة الكفر علناً، ولا يرونه في السلوك والعمل، إذ لو تصور الناس الكفر البواح تصوراً يطابق الحدود المنصوص عليها بين الإيمان والكفر في مثال قوله تعالى “فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم…” لَكَانَ قد نشأ عرف جديد وفهم أصيل في الوسط الإجتماعي ينشئ جواً ذَا مناعة عقائدية عالية، لا يستطيع أَيُّّّ نظام مُصَادَمَتَهُ.
وعلى العموم -فإن رأينا في المشكلة هو كالتالي: تتمة ص 7
التتمة في ص 7