القضية الفلسطينية والمشروع الصهيوني:
جذور وآفاق مستقبلية 2/2ّ
الانتفاضة والحركة الاسلامية… الدور الجديد
لم يكن غياب الحركة الإسلامية عن الفعل الجهادي في فلسطين طيلة ثلاثة عقود تقريبا فعلاً اختيارياً كما يذهب البعض من خصوم الحركة، وإنما كان غيابا قسريا نتج عن جملة من العوامل الذاتية والموضوعية.
فبعد المشاركة الجهادية المميزة للحركة الإسلامية في حرب عام 48 جاءت حقبة عبد الناصر بما حملته من صدام مع الحركة أدى إلى تغييبها من الساحة أمام المد القومي واليساري إلا في بعض جيوب قليلة كانت ما تزال صامدة في مواجهة تهم العمالة والخيانة التي تميزت بها الحقبة الناصرية، والمد اليساري. أما معظم رموزها (أي الحركة الإسلامية) فقد خرجوا إلى الخارج فراراً من الإضطهاد الناصري.
من تبقى من رموز الحركة الإسلامية وعلى رأسهم الشيخ أحمد ياسين، انشغلوا في الجانب الدعوي لإعادة التدين إلى المجتمع الفلسطيني، فانشأوا المساجد والجمعيات الخيرية، وطوال عقدين جاهد الشيخ ومن معه في إيجاد مدٍ إسلامي أخذ يظهر في منتصف السبعينات، ولكنه لم يتقو إلا في بداية الثمانينات.
خلال هذه الفترة كان للحركة دورا أساسيا في إشاعة التدين في المجتمع الفلسطيني، وتأكيد الهوية الإسلامية في مواجهة حالة التفسخ الخلقي التي نشرها اليهود في المجتمع الفلسطيني، وهي معركة لم تكن سهلة بل كانت أساسية ولولاها لما كان للمد الجهادي أن يظهر بعد ذلك.
مع بداية الثمانينات لم يكن الجزء الأساسي من الحركة بقيادة الشيخ ياسين قد اتخذ قراره بالمواجهة المباشرة مع العدو، ربما لقناعته بعدم نضج الظروف فنشأت مجموعة من التنظيمات الجهادية الصغيرة التي آمنت بالعمل المسلح، اجتمعت بعد ذلك فيما عرف بسرايا الجهاد الإسلامي، وهي التجربة التي لم تعمر طويلاً ونشأت على أنقاضها أكثر من حركة منها حركة الجهاد الإسلامي والسرايا…
خلال هذه الفترة وبالتحديد عام 83 اعتقل الشيخ أحمد ياسين ومجموعة من رفاقه بتهمة إنشاء تنظيم مسلح وتخزين أسلحة، وحكم الشيخ 13 عاماً خرج بعدها في صفقة تبادل أسرى مع الجبهة الشعبية (القيادة العامة).
جاءت الإنتفاضة بعد ذلك، وقد كان نبت الحركة الإسلامية قد استوى على سوقه، فقادت الحركة جماهير الشعب، وكان لها الدور الأساسي في تفجير الإنتفاضة وتأمين حالة الإستمرار لها.
وواصلت الحركة فعلها الجهادي بشكل متصاعد، فشنت حرب السكاكين في العام الثالث للإنتفاضة، وبعدها فجرت الكفاح المسلح بقيادة كتائب عز الدين القسام.
غير أن السؤال الأهم هنا، لماذا لم تتقدم الإنتفاضة بالقضية الفلسطينية خطوة إلى الأمام كما كان يفترض في ثورة شعبية بهذا الحجم.
والإجابة تكمن في ما قلناه سابقا، حيث أن إرادة التسوية كانت هي الأساسية في تفكير القيادة الفلسطينية، ففي قمة عنفوان الإنتفاضة عام 88، خرج المجلس الوطني بالإعتراف بقرار 242 الذي طالما رفض من قبل وخوَّن الموافقون عليه.
منظمة التحرير لم تضع ثقلها في الإنتفاضة، بل وضعت ثقلها من أجل تدجينها وإبقائها في يدها كورقة للمساومة على طاولة التسوية، وهي اللعبة التي فشلت أيضاً.
الإنتفاضة لتستمر وتتصاعد كانت تحتاج إلى مدد خارجي، خاصة على الصعيد المالي، ولما لم تفعل المنظمة ذلك، تحولت الإنتفاضة إلى عبء على الجماهير الفلسطينية وساهمت في قبولها بخيارات التنازل بعد ذلك، ولولا أن يقال أن ثمة سوء نية لقلنا أن ثمة من كانوا يعملون على تخريب الإنتفاضة، بتشجيع ظاهرة (الزعرنة) باسمها، والظهور بمظهر الوصاية على الشعب، وهو ما طفش الناس من الثورة والإنتفاضة.
المعاناة الإقتصادية… ، وتراجع التعليم وإغلاق مؤسساته، كل ذلك أتعب الناس، وجعلهم يأملون الخلاص من هذا الوضع.
ولكن الإسلاميين وعلى رأسهم (حماس والجهاد) واصلوا العمل الجهادي المتميز الذي كان يمنح الناس شيئا من التوازن في ظل حالة التراجع في كل شيء.
وجاءت حرب الخليج بإفرازاتها ورجوع عدد كبير من الفلسطينيين من الكويت لتزيد العبء وتزيد في معاناة الجماهير الفلسطينية، ولتغتنم القيادة هذه الحالة لتطرح تنازلاتها المثيرة في مدريد ومن ثم في أوسلو والقاهرة.
>حماس< وتسريع التسوية
وهنا قد يقول البعض أن المد الجهادي لحماس، ربما يكون قد سرَّع في التسوية نظرا لخوف الصهاينة وم.ت.ف على حد سواء من هذا المد، ولعل لهذا الطرح مصداقية ما، ولكن ذلك لا يعني أن جهاد >حماس< والإسلاميين قد كان سلبيا، فقد كان له أثره الطيب في كل مكان خارج وداخل فلسطين، كما أنه استطاع أن يطرح بديلاً في مواجهة حالة التراجع الفلسطينية والعربية، وأن يعلن أن حالة المقاومة هي الخيار الحقيقي للأمة.
لم يستطع الإسلاميون إيقاف التسوية نظراً لقوة الدفع الدولي الهائل خلفها، ولكنهم طرحوا البديل، وأبقوا مشعلة مضاءة في روح الأمة ستفيء إليها حينما تكتشف سراب ما يجري، وسيكونون البديل العملي لما يجري، والخيار الأهم في مقاومة الهجمة الصهيونية على المنطقة.
المرحلة الجديدة
المرحلة الجديدة في عمر المشروع الصهيوني هي مرحلة بيريز وتنظيراته والتصور الأولي لهذا الوضع يقوم على هدف أساسي هو قيام الكيان الصهيوني بوراثة الدور الإستعماري الغربي ولعبه بنفس الصيغة.
سيعمل الكيان الصهيوني على إعادة تجزئة وتفكيك الكيانات الموجودة لضمان الهيمنة عليها، وإذا لم يفلح في التفكيك الحقيقي فسيعمل على إثارة جميع النزاعات الطائفية والإقليمية والعرقية والمذهبية في كل المنطقة لإشغالها بنفسها، ولتصبح دولة العدو هي الدولة المحورية في المنطقة، تلك الدولة التي ستفرض من الوقائع السياسية والإقتصادية ما تريد لضمان إطالة هيمنتها.
إن النقيض الحقيقي لهذا الوضع هو الحالة الإسلامية في المنطقة، فالأنظمة ستنشغل بنزاعاتها الداخلية، وستقبل الشروط الصهيونية خوفاً من بطش دولة العدو. من هنا يأتي الدور الصهيوني في عملية التحريض على >الأصولية< باعتبارها حركة المقاومة الوحيدة في وجه امتداد الدولة العبرية وهيمنتها وسيدفع الإسلاميون استحقاقات هذا الوضع، وعليهم أن يوطنوا أنفسهم على التضحية، وهذه الإستحقاقات لا تتعلق بالإسلاميين في فلسطين أو الأردن أو دول الطوق فقط وإنما ستطال الجميع في الغالب، أو من يعلن التصدي للهجمة الصهيونية.
غير أن هذه الهجمة على الإسلاميين لن تعني بالضرورة استئصالهم أو تحجيمهم، بل يعوَّل على قدرتهم على المواجهة بعد أن أصبحوا تيار شارع وليسو حركات معزولة، ولذلك فالصهاينة قادمون على بحر من الرمال المتحركة التي لن تلبث أن تبتلعهم كما ابتلعت غزاة آخرين غيرهم.
إضافة إلى التعويل على مقاومة الإسلاميين الجذرية في التصدي للهجمة الصهيونية، فإن ثمة الكثير من الآفاق التي تدفع إلى شيء من التفاؤل وسط هذا السواد السائد.
فالصهاينة القادمون إلى المنطقة بنهم هائل، وهم الذين قال عنهم رب العزة >أم لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون الناس نقيرا< هؤلاء لن يلبثوا أن يصطدموا مع شركائهم الآخرين وعلى رأسهم الولايات المتحدة، بعد أن يعلنوا أن هذه المنطقة هي حكر لهم لا يقاسمهم فيها أحد. من هنا يعوّل على أن الوقفة الدولية خلف المشروع الصهيوني لن تلبث أن تتحلل وتزداد قدرتنا على المقاومة. وخاصة وأن المشروع الصهيوني الذي سيأخذ في التكامل لن يلبث أن يأخذ في التآكل كأي مشروع آخر، خاصة بعد غياب آبائه المؤسسين، وظهور أجيال لا تعرف إلا الحضارة المادية والترف.
إن في هذه الأمة من مخزون القوة والخير ما يجعلها تنتفض في مواجهة هذا المشروع النازي خاصة عندما يمس سيله النتن جميع فئات الأمة فتتوحد قلوبها وعقولها على مواجهته وسيكون بإمكانها ابتلاع مدة والإنتصار ليكون البديل هو المشروع الإسلامي القادم. ذلك الذي لا بديل غيره في الأفق بعد هزيمة المشروع الصهيوني..>يسألونك متى هو قل عسى أن يكون قريبا< صدق الله العظيم.