لا ينبغي التهاون مع العابثين
روى البخاري بسنده عن النعمان بن بشير، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >مَثَلُ القَائِمِ على حُدُودِ اللَّهِ والوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُّوا على سَفِينَةٍ فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَآ وبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الذِينَ في أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا على مَنْ فَوْقَهُمْ فَقَالُؤا : لَو أَنَّا خَرَقْنَا في نَصِيبِنَا خَرْقاً ولَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَآ، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُؤا هَلَكُوا جَمِيعاً، وإِنْ أَخَذُوا عَلى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا ونَجَوْا جَمِيعاً<.
هدف الحديث : إن هذا الحديث يَحُثُّنَا على وجوب مقاومة الفساد بجميع صوره، وللفساد أشكال وصور مختلفة، وهو من صنعنا وكَسْبِنَا وما عَمِلَتْه أَيْدِينا : >ظَهَرَ الفَسَادُ في البَرِّ والبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ<الروم 41] فَهُوَ دَعْوَةٌ صَرِيحَةٌ الى المحافظة على البيئة من التَّلَوُّثِ. والتلوث هو اختراق الفَاسِدِ لِحُدُودِ الصلاح. والتلوث كما يكون في البحار والمحيطات بَعْد تحويلها إلى مَزْبَلَة لِسُكَّان العالم تمتص نفايات المصانع وبقايا الاستهلاك… يكون كذلك بتلوث الهواء بالغبار الذري، وبِمَا تَنْفُثُهُ مَدَاخِنُ المصانع. ومحركات السيارات من دُخان كثيفٍ يغشى الناس، فيزكم الأُنوف برائحته الكريهة، ويجعل على الأَبصار غشاوة، ويُحْدِثُ في الآذآن وقراً. فيتلوث الفكر بتَلَوُّثِ منافذ المَعْرِفَةِ، ويَخْتَرِقُ الفسادُ جِسْم الانسان… فتصْعُبُ المقاومَةُ ويَعْسُر العِلاجُ… >ويُهْلِكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ والله لاَيُحِبُّ الفَسَادَ<البقرة 205].
وقفة مع الحديث : إن أول ما استهل به رسول الله صلى الله عليه وسلم حَدِيثه هذا هو لفظ >مَثَلُ<؛ والامثال طريقة من جملة الطرائق الاسلوبية التي عالجت بها الآيات القرآنية والاحاديث النبوية.. الحقائِق في منازِعها المختلفة، وحقيقةُ المَثَلِ يَقُومُ على الشَّبَهِ والنظير بين طرفين لتتم بينهما المقارنة والمُشَابهة. وقد يكون المثل بمعنى الصفة، ومن ذلك قوله تعالى : >مَثَلُ الجَنَّةِ التي وُعِدَ المُتَّقُونَ<الرعد 35] أي صفة الجنة، وقال تعالى : >وَللَّهِ المَثَلُ الأَعْلَى<النحل 60] أي الصفة العليا وهي قولنا : لا اله الا الله. وقال قوم : انما يعني المثل: المثال الذي يُحذى عليه كأنه جعله مقياساً لغيره.محمود سيد علي شقير، مع الامثال القرآنية ص : 46]. وعند البلاغيين أَنَّ كُلَّ تمثيل تشبيهٌ وليس كل تشبيه تمثيلاً، ويكون وَجْهُ الشَّبَهِ في الآيات القرآنية.. وفي الاحاديث النبوية… صورة متنوعة من جملة أُمورٍ، فتبْرُز تلك المعاني المجَرَّدَةُ في صورة محْسوسةٍ.
أخرج البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >إِنَّ القُرْآنَ نَزَلَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : حَلالٍ، وحَرَامٍ، ومُحْكَمٍ، ومُتَشَابِهٍ، وأَمثالٍ؛ فاعْمَلُؤا بِالحَلاَلِ، واجْتَنٍبُؤا الحَرَامَ، واتَّبعوا المُحْكَم، وآمنوا بالمُتَشَابِهِ، واعْتَبِرُوا بالأَمْثَالِ<الاتقان في علوم القرآن ج 2/131].
وقوله صلى الله عليه وسلم : >القَائمُ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ< المقصود : المُمْتَثِلِ لأَوَامِرِ الله، والمُنْتَهِي عَمَّا نهى الله عنه، وحدود الله محارمه التي يجب على الإنسان اجتنابها وأوامر الله التي لا ينبغي التفريط فيها.
وقوله صلى الله عليه وسلم : >والوَاقِعُ فِيهَا< المراد : المنتهك لحرمتها والواقع فيما نهى الله عنه من الجنايات كالقتل، والجرح، والزنا، والقذف، وشرب الخمر والسرقة، والبغي والحرابة، والردة، والزندقة ، وسب الله تعالى أو الأنبياء والملائكة، وعمل السحر وغير ذلك من المنهيات التي نهى الله عنها ورسولُه. ويكون القائم على حدود الله والواقِعُ فيها هما العنصرين المُمَثلَيْنِ لطرفِ المشبه في هذه الصورة البلاغية وأداة التشبيه هي الكاف ومَثَلَ، في قوله : (كَمَثَلِ قَوْمٍ) والقَوْمُ دَاخِل السفينة يُمَثِّلون طرف المشبه بِه، وسنذكر وجه الشبه فيما بعد. والقوم : الجماعة الرجال دون النساء، قال تعالى : >لايَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ<الحجرات11] ثم قال : >ولا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ< نفس الآية]. وقال تعالى : >وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ<العنكبوت 28] أراد الرجال دون النساء، وقد يقع القوم على الرجال والنساء؛ قال تعالى : >إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه<نوح 1] وكذا كل نَبِيٍّ مُرْسَل إلى النساء والرجال جميعاً، القرطبي ج 1/400] وواحد القوم امْرُؤٌ عَلَى غير اللفظِ.
وقوله صلى الله عليه وسلم : >اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ< اي : اقْتَرَعُوا، وسَاهم : قارع وأَصْلُه من السِّهام التي تُجَالُ. وتَسَاهَمُوا الشيء : تَقَاسَمُوه ومنه >الشركة المُسَاهِمَةُ< التي تكون بين أشخاص لكل منهم سَهْمٌ أو أَسْهُمٌ. وبالقُرْعَةِ ترجم البخاري لحديثه هذا في كتاب البيوع. وكتاب الشَّهادات نقل القرطبي عن أبي عَبَيْدٍ قوله : >وقد عمل بالقرعة ثلاثَةٌ من الأنبياء : يونس، وزكرياء، ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. ج 4/86] ويَقْصِدُ بقرعة يونس عليه السلام >وما كنت لَدَيْهِمُ إذ يُلْقُونَ أَقّلاَمَهُمُ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ<آل عمران 44] وثبت أن الرسول صلي الله عليه وسلم كان إذا أراد سفراً أقّرَعَ بين نسائه فأيَّتُهُنَّ خرج سهّمها خرج يها. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّدَاءِ والصَّفِّ الأَوَّلِ ثم لَمْ يَجِدُوا إلا أنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لاَسْتَهَمُوا< متفق عليه].
وقوله صلى الله عليه وسلم : >فَأَصَابَ بَعْضَهُم أَسْفَلَهَآ وبَعْضَهُمْ أَعْلاَها.. إلى آخر الحديث : معناه باخْتِصارٍ : >أَن جماعةً من الناس أرادوا سفراً في البَحْر، فركبوا مَتْن سفينة، لكنهم كانوا كثرةً، فتقاسموا الأماكن، أماكن الإقامة والمبيت، فكان نصيب بعضهم أعلى السفينة، كما كان نصيب البعض الآخر أسفلها.
فكان الذين في أسفلها إذا اضطروا الى الماء لقضاء بعض حوائجهم صعدوا الى السطح ثم اغتَرَفُوا من البحر، وحملوا الماء في أوْعيَّة لا تَنْضَبِط… فكان الماء ينسَكبُ يمنة ويسْرة فيؤذي رُكَّابَ السطح في أمتعتهم وحوائجهم وظهر التَّأَفُّفُ والضِّيق ممن يُقِيمُون فَوْقَ السطح (وهذا ولاشك خَطَأٌ)..، فقال الآخرون فيما بينهم : لو أننا خَرَقْنَا خرقاً واستقينا منه الماء لم نُؤْذِ مَنْ فوقنا (وهذَ خطأ آخر).. (الخطأ الأول مبنيٌّ على الضٍِّيق والآخر مَبْعَثُه قوله تعالى :> فساهم فكان من المدحضين <(الصافات149) وبقرعة زكرياء عليه السلام حُسْنُ النّية وكِلاَهُمَا لا يَشْفَع )ُ، فلو أن الاولين المتَضايِقِينَ تركوا الآخرين يَفْعَلُونَ ما يشاءُون لهلكوا جميعاً، ولو أَنَّ العُقَلاَء من الفَريقين الذين يُدْرِكُونَ خطر الحرية غير المسؤولة وقَفُوا في وجه المُتَهَوِّرِينَ لنَجَوْا جَمِيعاً<محمد علي قطب 50 نصيحة نبوية ص : 50].
على أن وجه الشبه بين القائمين على حدود الله في الأرض وبين العقلاء داخل السفينة هو السهر على مصالح الناس رغبة في حصول النجاة لأنفسهم ولغيرهم ممن هم تحت مسؤوليتهم وتحت رعايتهم وكفالتهم. ولا تكون النجاة والسلامة إلا بإقامة شرع الله، وأن الشق الثاني في هذا الوجه هو التشابه الحاصل بين المنتهكين لحرمات الله في الأرض وبين المصَمِّمِين والعازمينَ على خَرْقِ السفينة من المتهورين فَيُلحقون الهلاك بأنفسهم كما يَطَالُ الهلاك مَن معهم عندما يمتنعون عن كفهم ويَرضَوْن عن أَعْمَالِهِمْ.
ما يُستفاد من الحديث :
1- جاء أسْلُوب الحديث بمثال، والمثال أسْلُوب تربوي شيِّقٌ لا ينبغي للاستاذ والواعظ والداعي إلى الله أن يحيد عنه متى قَدَر على استعماله كوسيلة توضيحية وبيانية : >وتُسَاقُ أساليب الامثال في صورة من الاعجاز البياني لأُولي الألباب حتى تكون صِمَامَ أَمَانٍ من عذاب الله الذي أعده للكافرين. وتُبْرز تلك المعانيَ المجردةَ في صورة محسوسة، أو الاشياء المتخَيَّلة أو المتوهَّمة في صورة متحقّقَةٍ أو مُتَيَقَّنَةٍ من التمثيل الحرَكِيِّ أو القَوْلِيِّ، حتي يكون لذلك صَدَاهُ في نفس المتلقِّي أو المشاهد، فينْطَبِعُ في ذاكرته، ويصِل الى قرارِ فُؤادِهِ فلا يُمْحَى على مَرِّ الأيَام.. محمود شقير، مع الأمثال القرآنية 49].
2- الحديث يقسم الناس إلى فئتين : فئة قائمة على حدود الله، وفئة منتهكة لحرمات الله، وليست هناك فئة ثالثة مذبذبة بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، والأمر موكول إلى المؤمن نفسه ليختار، وليُعَيِّر نفْسَه من أي الفئتين هو فإن (الكَيِّسَ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وعَمِلَ لِمَا بَعْدَ المَوْتِ والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتَمَنَّى على اللَّهِ) رواه الترمذي وقال حديث حسن رياض الصالحين ج 1/29].
3- هذا الحديث يستفاد منه حُكْمٌ فِقْهِيٌّ وهو جواز استعمال القرعة في القسمة، وكيفيتُها مذكورةٌ في كتب الفقه والخلاف، وقد ترجم البخاري في آخر كتاب الشهادات (باب القُرْعة في المُشكلات وقولِ الله عزوجل >إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكُفُلُ مَرْيَمَ<آل عمران 44] وساق هذا الحديث.
4- يستفاد منه : >تَعْذِيبُ العَامَّةِ بِذُنُوبِ الخَاصَّةِ< وهذا مقرر في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ونذكر منها على سبيل المثال :
أ- قوله تعالى : >واتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الذِىنَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً<الأنفال 25] قال ابن عباس : أمر الله المؤمنين الا يُقروا المُنْكَرَ بَيْنَ أَظْهُرِهِم فيعُمَّهم العذابُ، وقال القرطبي في شرح الآية : “واتقوا فتنة تتعدى الظالمَ فتصيبَ الصَّالِحَ والطَّالِحَ ج 7/393].
ب- قال ابو بكر الصديق رضي الله عنه في خطبته : >أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية وتتأولونها على خلاف تأويلها : >ياأَيَّهَا الذِينَ ءَآمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إذا اهْتَدَيْتُمْ<المائدة 105] وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : مامن قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يَقْدِرُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَفْعَلْ إِلاَّ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ<. وقالت عائشة -رضي الله عنها- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >عُذِّبَ أَهْلُ قَرْيَةٍ فِيهَا ثمَانِيَةَ عَشَرَ أَلْفاً، أعمالُهُم أَعْمَالُ الأَنْبِياءِ<. قالوا : يارسول الله كيف ذلك؟ قال : لم يَكُونُوا يَغْضَبُونَ لله عزوجل، ولا يَأْمُرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر<الأربعين في أصول الدين للغزالي : 53].
5- يفيد الحديث ان بَعْضَ الناس قَدْ يَتَصَرَّفُون بما يَضُرُّ النَّاسَ بِدَافِعِ اجْتِهَادٍ خَاطِيءٍ ونِيَّةٍ حَسَنَةٍ، وامثالُ هؤلاء يَجِبُ مَنْعُهُمْ وتَبْصِيرُهُمْ بالأَخْطَارِ التي قَدْ تَنْجُمُ عَنْ جَهْلِهِمْ وبِمَا غَابَ عَنْهُمْ.
6- افاد الحديث أَن المسؤولية قسمان : شخصيّةٌ ذَاتِيَّةُ، وعامَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ، تَتَدَلَّى الأُولَى إلى الثَّانِيَّةِ بأَكْثَرَ منْ سَبَبٍ وأَعَمَّ مِنْ طَريقِ، لأَنَّ الفردَ في هذا الوُجُودِ لَيْسَ كَائِناً وَحْدَهُ، بل هُوَ جُزْئِيَّةٌ من جُزْئِيَّاتِ هَذَا المُجْتَمَع وأَن حُرِّيَّةَ الفَرْدِ دَاخِلَ هَذَا المُجْتَمَعِ هِيَ في أَضْيَقِ الحُدُودِ، ولأَنَّهَا مُحَاصَرَةٌ بِحُرِّيَّةِ الآخَرِين.
ونسأل الله الهداية والتوفيق.