إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم
إذا نظرنا إلى هذا الجزء الصغيرمن الآية 247 من سورة البقرة فإننا نجده يقرر في آخره صفتين اساسيتين، يمكن اعتبارهما اساس تَحَمُّلِِ المسؤولية، وأَعْبَاءِ تَسْيِيرِ الشؤون العامة سواء تعلق الأمر بالساسة والأمراء أو عامة الناس والمأمورية. فهذه الصفات المحتاج اليها في تدبير أمور الامة العامة والخاصة، ترجع أولا إلى : أصالة الرأي وثانيا إلى : قوة البدن. ذلك أنه بالرأي السديد يُهْتَدَى لِمَصْلَحَةِ الامة لا سيما في الفترات الشدائد وفي حال تَعذُّر الاستشارة أو عِنْدَ اخْتِلاَفِ أهل الحل والعقد، وبالقوة -سواء تمثلت القوة في البدن أو الفكر أو في متانة الخلق- يَسْهُلُ الثبات في المحن وفي مواقع الدفاع والقتال.فتقديم قوة العلم على قوة البدن في الآية له دلالةٌ عظيمةٌ، وحكمة بليغة، ذلك أن العالم المسؤول بفضل علمه يقوم بالمهمة الملقاة على عاتقه على أَكمل وجه، لانه مقيد بقضاياه ــ أي العلم ــ ومقتضياته، ملزم باتباع قوانينه طوعاً أو كرها.مأمور باتباع أوامره ونواهيه ومأمور كذلك بتبليغ علمه للناس حتى يكونوا على بصيرة من أمور دينهم ودنياهم، وحتى لا يكون هو من الملجمين بلجام من النار يوم القيامة. ففي الحديث (من كتم علما ألجمه الله بلجام من النار يوم القيامة ). والعالم الذي يكتم الحق ويخفي أوامر الشريعة ونواهيها ومقاصدها شيطان أخرس كما ورد في الحديث. فالامة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي زمن الخلافة الراشدة وحتى على العهد الاموي كانت تمارس سيادتها وتقول الحق لانهاكانت في مستوى من العلم والوعي والنباهة، وكانت تقوم باداء فريضتها الشرعية الاجتماعية المتمثلة في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان علماؤها وقادتها في الواجهة الامامية لكل ثغر وموقع سواء في الإفتاء، او الجهاد، او إمامة الناس، أو ممارسة الحسبة و القضاء، لانهم ورثة الأنبياء. وهم القادرون على النصح والارشاد وتوجيه الناس نحو مصلحتهم لانهم الاكثر تمثلا للقيم والمناقب الاسلامية كالعدل والانصاف… فمن أصول العدل الكبرى حاجة أولي الامر إلى قسط لابأس به من العلم، يؤهلهم لاداء رسالتهم المنوطة بهم. جاء في كتاب الإحياء للإمام الغزالي ما نصه : (الملوك حكام على الناس و العلماء حكام على الملوك) (1/18). فالذي يستفاد من كلام الغزالي أن سلطة العالم العامل فوق سلطة الحاكم غير العالم، كما أن الحاكم او القائم بامور الامة لا يمكن أن يكون إلا عالما، وصل إلى درجة الامامة العلمية، وإلا فإنه ملزم بالأخد برأي من هو أعلم منه. والعلماء هم العمدة الرئيسية، والقوة الرادعة لكل طغيان أوفساد يعتري جوانب شتى من حياة الامة، وهم الحصن المواجه لسيادة الدولة التي كثيرا ما يعتريها الزيغ والهوى والانصراف عن شرع الله، والشيء بالشيء يذكركما يقال فَلِلْعُلَمَاءِ المخلصين العاملين على استرجاع الهَيْبَةِ والكَرَامَةِلهذه الامة مُهِمَّةٌٌ كُبْرَى خَلَفُوا بِهَا مُهِمَّةَ النُّبُوَّةِالتي اخْتُتِمَتْ بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهم القادرون على الابداع والابتكار وَإِحْدَاثِ التغييرالمطلوب في المجرَى العامِّ للتاريخِ، والحضارة الانسانيَّة، إذالم يطبعوا فيما يفْنَى ويَبْلَى ولم يكتموا قول الحق خوفا مما توعدهم الله تعالى به >ان الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا اولئك ما ياكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يز كيهم ولهم عذاب اليم <(البقرة/173).
بكلمة واحدة. فالعلماء إذن يمثلون المرجعية الاولى والاقوى في الذود عن سيادة الامة، وهم مصابيح ظلامها، والنور الذي يلتف حوله في أدق الأوقات، وقوة ضغط معنوية يمكن أن تكون شديدة الخطورة إن هي حافظت على حق العلم، ومُسْتَلْزَمَاتِهِ، وكانت دائما بجانب الحق.
إن حالة الجاهلية والجهل وسياسة التجهيل الممنهج التي تَنْخُرُ جسم الأمة من الداخل، تستدعي من الغيورين والمخلصين قَذْفَ هذه الأمة ومن جديد في بَحْرٍ من العلم لكي تقوم بأداء رسالتها ووظيفتها الاساسية وهي الشهادة على الناس، وهذا لايتم إلا ب :
1- رد الاعتبار للمؤسسات الأصيلة -كجامع القرويين وغيره-، والمراكز التي كانت تدور في فلكها، وتطوير مناهجها وتجديد برامجها وذلك حتى تقوم هذه المؤسسات بدورها الريادي الذي ترك بصمات خالدة في زمن الاشراف المادي والمعنوي، مستأنفة بذلك عودتها الثقافية واشعاعها الحضاري المتميز، مع تشجيع المبادرات الحرة التي تدخل في هذا الاطار.
2- اعادة هيكلة التعليم العام سواء على مستوى البرامج او التخصصات، هيكلة تراعي خصوصيات المرحلة والوضع العام الذي تمر به الأمة، حتى يستجيب -التعليم- لمتطلبات الواقع وتطلعات المستقبل، وكذا بناء المؤسسات الخاصة المكملة لهذا التعليم المهيكل.
3- ازالة الرقابة على المساجد التي هي أم المدارس باعتبارها القناة الطبيعية لتلقي الثقافة الاصيلة، وهذا لا يتم إلا باستقلالية المجالس العلمية عن الأجهزة الرسمية لأن علماء هذه المجالس هم مصابيح وأعمدة المساجد.
4- المراجعة الشاملة والدقيقة للمؤسسة الاعلامية، نظرا لما لها من التوجيه الخطير والمهم للحياة اليومية ولما لها من التأثير على عقول الناشئة والعامة، مراجعة تعيد للمسلم هويته وأصالته المستقاة من المنابع الصافية.
أما الصفة الثانية التي ينبغي أن تتوفر في القائم بأمر الأمة، والتي أشرنا إليها في بداية المقال ب : قوة البدن اي “البسطة في الجسم” فإنها تعني فيما تعنيه “جمال السمت والشجاعة والهيبة والسلامة من العيوب والعوائق الجسمية التي يمكن أن تحول دون قيامه بوظيفته المنوطة به على أكمل وجه وأحسن حال. فهي -أي البسطة في الجسم- لا تعني طول القامة والضخامة في الجسم وجبروت صاحبه وغلظة كلامه بقدر ما تعني ماذهبنا إليه والله أعلم.
خلاصة القول إن قوله تعالى >وزاده بسطة في العلم والجسم< يؤخذ منه وجوب المعرفة والعلم اللازم والكافي لكل من تقلد أمرا من أمور الأمة، لذلك فإننا خصصنا له جانبا أوفر لأنه مناط كل مسؤولية ورأسها، ووقعه أعظم وتأثيره أكبر على غيره من الصفات، امل الجسم فإنه وعاء العلم واداة تطبيقه وإبرازه وتنفيذه على اكمل الوجوه. قال الشاعر :
الرأي قبل شجاعة الشجعان
هو الأَوَّلٌ وهْيَ المحلُّ الثاني.