التقعيد الفقهي وأثره في فقه الدعوة وترشيد مناهجها
ذ.محمد الأنصاري
إن الأمة الإسلامية اليوم في حاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى صياغة عقلية فقهية حية تجديدية ومجتهدة تعمل على بلورة مفاهيم الإسلام ونظمه بلورة معاصرة تستجيت لمعطيات الحياة الجديدة، وتسعى إلى حل كل المستجدات المتراكمة في واقع الأمة المسلمة خاصة والبشرية عامة وفق رؤية فقهية مقاصدية.
ومن هذا المنطلق فإن إحداث أي تغيير إسلامي منشود لا يمكن أن يتم إلا إذا تغير مسلم اليوم عقلا وفكرا وسلوكا تغييرا حضاريا، وكان ذلك في إطار منهج إسلامي رشيد، يرشد عمل العاملين في حقل الدعوة إلى الله، إذ بقدر رشدنا وفقهنا في المنهج يكون مستوى انطلاقنا وإقلاعنا الحضاري كما وكيفا.
وعلى هذا الأساس فإن إعادة الإعتبار للمنهج الرشيد في الدعوة والتغيير وإقامة الدين والشهادة على الناس وإخراج الأمة المعيار “كنتم خير أمة أخرجت للناس…” لا تتأتى إلا بالإهتداء بقواعد الفقه المقاصدي الذي ينير السبيل أمام دعاة الخير والصلاح.
لهذا اخترت هذا الموضوع عساه أن يكون محفزا لنقد وتقويم مناهج دعوتنا بغية الترشيد والتسديد والتصويب. وأتناوله من خلال العناصر التالية :
1) إثبات القاعدة. 2) التأصيل الشرعي لها . 3) فقه أولوياتها. 4) ضوابطها المنهجية. 5) ما يمكن أن يدور حولها من اختلاف.
ولنبدأ على بركة الله بالقاعدة الأولى مراعين فيها العناصر المسطرة أعلاه :
1) من قواعد فقه الدعوة القاعدة التالية : “تتفاوت رتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بتفاوت رتب المأمور به والمنهي عنه”.
هذه القاعدة الفقهية الدعوية من أهم القواعد التي ترسم ملامح منهج واضح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهو لب التغيير وأساس إخراج هذه الأمة إلى الناس كافة.
2) التأصيل الشرعي للقاعدة : الأصل فيها من حيث وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوله تعالى : وَلْتَكُنْ ِمْنكُمْ ُأمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلخَيْرِ َويَأْمُُرونَ بِالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ اَلمُفْلِحُونَ “(آل عمران : 104). وقوله صلى الله عليه وسلم : “مَثَلُ اَلقَائِمِ عَلَى حُدُودِ اَللهِ وَالوَاقِعِ فيِهَا َوالمُدَاهِنِ فِيَها، مَثَلُ قَوْمٍ رَكِبُوا سَفِينَةً فَأَصَابَ بَعْضَهُمْ أَسْفَلُهَا وَأَوْعَرُهَا وَشَرُّهَا َوأَصَابَ بَعْضَهُمْ أَعْلاَهَا، فَكَانَ الذِينَ فِي أَسْفَلٍهَا إِذَا اسْتَقَوْا الماءَ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ فَآذَوْهُمْ، فقالوا : لو خَرَقْنَا فِي نَصِيَبنَا خَرْقًا فَاسْتَقَيْنَا مِنْهُ وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ تَرَكُوهُمْ وَأَمْرَهُمْ هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نجُوا جَمِيعًا” فتح الباري : 1325. وأما أصلها من حيث رتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقوله (ص) : “مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِِِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ اِلإيمَانِ” وهذا الحديث -كما قال ابن العربي- من غريب الفقه فالرسول (ص) بدأَ في البيانِ بالأخيرِ في الفعلِ، وهو تغييرُ المنكر باليدِ، وإنما يبدأُ باللسانِ والبيانِ، فإن لم يكن فباليد. أحكام القرآن 1/293.
وكذلك قوله (ص) : “أَفْضَلُ الجهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِندَ سُلطَانٍ جَائِرٍ” الترمذي وغيره. إذ جعل كلمة الحق أفضل الجهاد لأن المنكر قد بذل نفسه بحيث لا يقدر على تخليصها بخلاف المجاهد فإنه يتوقع أن يقتل قربة، ويتوقع أن يخلص، فلم يكن بذله لنفسه كبذل المنكر على السلطان الجائر، حيث النتيجة معروفة.
3) بيانها وفقه أولوياتها :
وفي بيان هذه القاعدة الحركية أورد نصا ذهبيا في الفقه المقاصدي الدعوي لسلطان العلماء الغر بن عبد السلام يقول فيه : “الأمر بالمعروف وسيلة إلى تحصيل ذلك المعروف المأمور به، ورتبته في الفضل والثواب مبنية على رتبة مصلحة المأمور به في باب المصالح، فالأمر بالإيمان أفضل أنواع الأمر بالمعروف، وكذلك الأمر بالفرائض أفضل من الأمر بالنوافل….
وكذلك النهي عن المنكر المنهي عنه، ورتبته في الفضل والثواب مبنية على رتبة درء مفسدة الفعل المنهي عنه في باب المفاسد، ثم تترتب رتبه على رتب المفاسد إلى أن تنتهي إلى أصغر الصغائر، فالنهي عن الكفر بالله أفضل من كل نهي في باب النهي عن المنكر” قواعد الأحكام 1/127.
وبهذا يتضح أن الإمام العز يحدد من خلال هذا النص التقعيدي منهجا جليا في أولويات الدعوة إلى الله، فالأمر بتصحيح العقيدة، والتصور نحو الكون والحياة هو أولى الأولويات في الدعوة. ثم الدعوة إلى تصحيح التدين وإحياء معالمه التي ضمرت في نفوس الناس فأصبح التدين مظهرا جامدا تقليديا ضيقا لا يشمل إلا بعض جوانب الحياة، في حين أن التدين الصحيح في مفهوم الإسلام هو التدين الحي الواعي الشامل الذي يرسم منهج حياة للفرد والمجتمع والأمة في السلوك والأخلاق والمعاملات. ثم الدعوة إلى تصحيح الالتزام لإخراج الأمة المعيار المؤهلة لحمل أمانة الدعوة والتبليغ : فقها للأسس، والمراحل، والوسائل الدعوية.
إن ترتيب أولويات هذه القاعدة في الفقه الحركي تقتبس معالمها من فقه الموازنات بين المصالح فيما بينها والمفاسد فيما بينها، وبين المصالح والمفاسد، وقد بين سيد قطب بعض أولوياتها حيث قال : “إن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولا إلى الأمر بالمعروف الأكبر، وهو تقرير ألوهية الله وحده سبحانه، وتحقيق قيام المجتمع المسلم، والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولا إلى النهي عن المنكر الأكبر، وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير الله عن طريق حكمهم بغير شريعة الله…، ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم”. الظلال 11/50.
( يتبع في الاعداد القادمة)