الانفجار السكاني العالمي 1/2
بين التزييف في العرض والتضليل في الحل
> نبيل شبيب
إن الحديث “الموضوعي” المطلوب والضروري في مثل هذه القضية لا يمنع من الإحساس بالحاجة إلى كلمات قد يبدو فيها أثر الشدة أو المبالغة أو أثر لسان “العاطفة”، إنما يضمحل هذا الانطباع سريعا عند الاطلاع على المعلومات المجردة والمناقشة المنهجية، بل إن شدة التعبير تبدو أقل مما ينبغي بكثير عند مقارنتها بالأسلوب “الغوغائي التضليلي” المتبع في طرح قضية “ازدياد سكان العالم” وبحثها واقتراحات علاجها. وقد ندرك هنا على سبيل المثال -وإن لم نتقبل- دوافع استخدام كلمات من قبيل “الانفجار السكاني” و “القنبلة الموقوتة”وما شابه ذلك، في إطار حملة البلدان الصناعية من أجل الحد من الإنجاب في البلدان النامية لا سيما الإسلامية، ولكن كيف نفهم نقل هذه التعابير وأمثالها ونقل وجهات النظر الخطيرة المرافقة لها إلى داخل بلادنا وعبر وسائل إعلامنا وعلى ألسنة المتحدثين باسمنا في المؤتمرات الرسمية وغير الرسمية الإقليمية والدولية، وكأن القضية قضية “إرهاب” الناس من الإنجاب فحسب، ثم تصوير ما يطرح وينفذ من نظريات ومخططات في إطار “القوالب العلمية” و “الأساليب المنهجية”، دون الحد الكافي من الدراسة الضرورية؟ هذا مع أن القليل من البحث والتمحيص بصورة موضوعية يكفي للكشف عن درجات من التضليل والخداع تثير الدهشة، لا سيما وأنها تجري على أعلى المستويات وعلى أوسع نطاق عالمي. فهل وصل أسلوب التلقي في البلدان الإسلامية إلى هذا المستوى المذهل والخطير المعبر عن سياسة خرقاء أو جهالة ضارة أو تبعية عمياء، في قضية من أهم القضايا المستقبلية، فهي قضية أصل “وجودنا البشري” المحض؟!
التزييف في عرض المشكلة
أولا : الكلمات المذكورة أعلاه -كأمثلة- والمنقولة عن عناوين وبحوث منشورة في وسائل إعلام غربية، كتعبيري الانفجار والقنبلة، تنطوي في الأصل على الإشارة إلى ما يحدث فجأة على غير انتظار، بين لحظة وأخرى، فلا يكاد يمكن الاستعداد له ولا التأهب لمواجهته بالتخطيط القويم والتصرف السليم في الوقت المناسب. فأين هذا من مشكلة “ازدياد عدد السكان” في العالم، وجميع ما يذكر فيها من معلومات تقديرية تتحدث عن أبعاد تتراوح بين عشرة وعشرات السنين المقبلة؟
ثانيا : إن فصل قضية “ازدياد السكان” عن قضية زيادة الموارد والإنتاج عالميا وقضية توزيعها، يتناقض مع طبيعة المشكلة بحد ذاتها وينحرف انحرافا كاملا بأسلوب عرضها، فالمفروض أن الحديث يدور عن “الأسرة” البشرية، ولكنه يتحول إلى حديث تخويف فريق لفريق فيها، عند التحذير مثلا من أن “عدد سكان العالم في القرن العشرين قد ازداد بما يعادل عشرة أضعاف ازدياده في القرن السابق”، وهذا صحيح، ولكن ما ذا يبقى من القيمة العلمية المنهجية في عرض المشكلة على حقيقتها عندما نضيف إليه أن زيادة حجم الإنتاج العالمي من المواد الغذائية والاستهلاكية في القرن العشرين قد بلغت أيضا أكثر من 15 ضعف نسبة الزيادة المتحققة في القرن السابق”، أو عندما نضيف أن الدراسات المنهجية الراهنة تقول إن الإنتاج العالمي الحالي يكفي لتأمين معيشة كريمة وليس حد الكفاية فقط، لأكثر من عشرين مليارا من البشر، لولا الخلل في التوزيع؟
ثالثا : إن تصوير القضية كما لو أنها “مشكلة البلدان النامية” بالذات يقوم على محور تعليل مطالبة البلدان الصناعية بالحد من الإنجاب في البلدان النامية، فالحجة هي أن 90% من مواليد العالم سنويا يولدون فيها.. وهذا صحيح بحد ذاته، ولكن لنتأمل فيما يبقى من أثر الانطباع المطلوب عبر ذكر هذا الرقم، عندما تذكر إلى جانبه معلومات أخرى.
- البلدان النامية التي تنجب 90% من أطفال العالم، يعيش فيها 76% من سكانه.
- المقارنة الأصح هي أن وسطي المواليد في البلدان النامية يعادل حسابيا 2.3 طفل لكل فرد، وفي البلدان الصناعية 1.3 طفل لكل فرد، ووسطي المواليد في العالم بمجموعه يعادل 1.7 طفل لكل فرد.
- يقابل ذلك أن وسطي الأعمار في البلدان الصناعية أكثر من 75 سنة وفي النامية دون 60 سنة، وأن وسطي نسبة وفيات الأطفال في البلدان النامية يعادل حوالي ستة أضعافه في البلدان الصناعية.
- إذا كانت المشكلة الحقيقية في زيادة السكان هي استهلاك موارد العالم، وجب أن نأخذ بعين الاعتبار ما يستهلكه الفرد الواحد من “موارد العالم”، مباشرة لنفسه، وإسرافا بإتلاف نسبة عالية من الموارد دون فائدة، ومع مراعاة وسطي حياة الفرد.. نجد أن الفرد المولود في البلد الصناعي، يستهلك مئات أضعاف ما يستهلكه الفرد المولود في البلد النامي.. أي ما يتجاوز 500 ضعف على صعيد الطاقة والمياه والخامات الأساسية، وأكثر من 300 ضعف على صعيدي المواد الغذائية والزراعية.. من هنا السؤال : هل ينبغي استئصال وجود القسم الأكبر من الشعوب النامية، بمنع إنجاب مئات المواليد فيها مقابل ميلاد كل طفل جديد في البلدان الصناعية، كي يعيش أفرادها في المستوى الراهن للرفاهية والترف فيها، أم ينبغي تخفيض نسبة هذا المستوى بضع درجات مئوية ليزول الخلل القائم عالميا في الوقت الحاضر؟..
رابعا : والواقع أن هذه المشكلة “صنعت” للبلدان النامية، فهي في الأصل ليست قضية “إنجاب” بل قضية “عجز” عن تأمين أسباب المعيشة للمواليد في البلدان النامية، وقد بدأ هذا العجز كنتيجة لانتشار الاستغلال من جانب البلدان الصناعية عبر الاستعمار القديم والحديث، ووصل هذا الاستغلال إلى ذروة بعد أخرى ومن ذلك ما نشهده في الحقبة الراهنة التي يمكن التأريخ لها بمطلع السبعينات الميلادية، ويرمز إليها تعبير جرى على لسان وزير الزراعة الأمريكي الأسبق “إيرل بوتس” وهو يؤكد على اعتبار المواد الغذائية “أفضل سلاح سياسي نحمله في حقائب مفاوضاتنا مع الآخرين في الوقت الحاضر”، وكان ذلك عام 1974م أي عندما كانت الحرب الأمريكية والغربية على أشدها ضد “استخدام النفط- وهو مادة اقتصادية- كسلاح سياسي”. إن الاستغلال المزدوج وفق هذا المنظور هو الذي أوصل إلى الواقع الراهن كما تشير إليه الأرقام، ومن معالمه الرئيسية :
- 80 مليون نسمة -أي 1.5% من البشرية، هم فئة الأثرياء بين مواطني البلدان الثرية- يسيطرون على 31% من دخل العالم بمجموعه، ويصل وسطي دخل الواحد منهم إلى 81.500 دولار سنويا.
- 228 مليون نسمة -أي 4.3% من البشرية هم سكان الدول الأثرى من سواها في العالم- يسيطرون على 79% من دخل العالم بمجموعه، ويصل وسطي دخل الفرد منهم إلى 20.570 دولار سنويا.
- 3.2 مليار نسمة 0أي 60% من البشرية، هم سكان البلدان الأفقر في العالم- يملكون 5% من دخل العالم، بوسطي فردي يعادل 350 دولارا في السنة.
وبين هؤلاء وأولئك بقية البشرية في بعض الدول المتوسطة الثراء ومن الفئات المتوسطة الدخل في البلدان الثرية. ولكن “الجهود العالمية” حتى في الميدان الاقتصادي والتجاري، لا يجري توجيهها أصلا لمواجهة هذه “الهوة” وتخفيف وطأتها على الأقل، فساعة كتابة هذه السطور يجري التوقيع في المغرب على الاتفاقية العالمية للتجارة والجمارك، التي من المفروض أن تزيد دخل العالم التجاري بما يزيد على 200 مليار دولار على أقل تقدير، سيكون ثلثاها من نصيب الولايات المتحدة الأمريكية واليابان وأوربا الغربية بالذات، لتزداد القلة الثرية ثراءً وتزداد الكثرة الفقيرة من البشر فقراً، ثم ليطلب الثري من الفقير أن يمتنع عن الإنجاب!
عن قضايا دولية بشيء من التصرف ع 226