الانفجار السكاني العالمي بين التزييف في العرض والتضليل في الحل 2/2 نبيل شبيب
التضليل في بحث المشكلة
أولا : من أغرب الحجج التي باتت تتردد وكأنها بدهية مسلَّم بها أن أهم شروط النهضة الاقتصادية في البلدان النامية الآن شرط الحد من الإنجاب. وهي حجة تتناقض مع حقيقة تاريخية ثابتة تقول إنه منذ بداية النهضة الحديثة في الغرب إلى أوائل القرن العشرين، كان الازدياد السكاني العالمي متركزا في الغرب، دون أن تواجه مسيرة النهوض الاقتصادي فيه، منذ مطالعها الأولى وحتى اليوم، مطالبة ما بالحد من الإنجاب، مع أنها انطلقت قبل قرون من وسط ظروف اقتصادية ومعيشية أشد بمقاييس العصر من ظروف البلدان النامية في الوقت الحاضر. كذلك فإن البلدان التي توصف الآن بشبه المتطورة، مثل “النمور الخمسة” في جنوب شرق آسيا، لم تتميز عن بقية البلدان النامية بحل “مشكلة” الإنجاب ثم الإنتاج، بل حلت مشكلة “الارتباط الاقتصادي التبعي” بالدول الصناعية، فاستطاعت التحرك على طريق التطور الاقتصادي رغم “الإنجاب”!
ثانيا : وتبعا لذلك فمن أغرب المزاعم الأقرب إلى “خداع متعمد” مزاعم تشترط على البلدان النامية أن تبدأ بما انتهى إليه سواها ويحاول التخلص منه الآن، فالعزوف عن الإنجاب لم ينتشر في الغرب إلا نتيجة انحرافات اقتصادية واجتماعية علاوة على الانحراف الخلقي، ولم يكن شرطا للنهضة بل بدأ بعد أن وصلت إلى ذروتها مع مطالع القرن الجاري، وانتشر وأصبح ظاهرة عامة في الثلث الأخير من هذا القرن فقط، فقد كان نتيجة ولم يكن نقطة انطلاق للنهضة، وقد أصبحت الدول الصناعية تنفق الآن المليارات سنويا لمكافحة هذه الظاهرة دون جدوى.
إن الخلل في منظومة القيم الخلقية والاجتماعية، وتفكك الأسرة، والاستعباد الحديث للمرأة..، هو الإطار الذي صنعته النهضة “المادية” الحديثة فصنعت العزوف عن الإنجاب، ومن السذاجة أو من التضليل بمكان محاولة تصوير ذلك الآن تصويرا معاكسا لمجرد الترويج لدعوة الحد من الإنجاب في البلدان النامية.
ثالثا : والأبعد من ذلك أن جوهر المشكلة العالمية لازدياد السكان عالميا في الوقت الحاضر لم تكن له علاقة بالبلدان النامية، وإنما نشأ في الأصل كخلل استفحل أمره في البنية الهيكلية السكانية لتوزيع الأعمار في الدول الصناعية، حتى بدأ يثير المخاوف من أن يؤدي إلى تحولات حضارية عالمية. ومحور ذلك هو رصد ارتفاع نسبة المسنين العاجزين عن الإنتاج تدريجيا، مقابل انخفاض نسبة العاملين المنتجين في سن الشباب، وتصل تقديرات المعاهد الغربية المتخصصة إلى القول بتحول المجتمع الغربي في غضون بضعة عقود قادمة إلى 20% دون سن العمل و 35 -40% من المنتجين، و40 – 50% ممن تجاوزوا سن الإنتاج بينما لا يزال ارتفاع نسبة الطاقة البشرية القادرة على العمل والإنتاج يزداد في البلدان النامية ولا سيما الإسلامية، وهذه النسبة الآن في حدود 50 – 60% ولا ينبعث القلق الغربي هنا من خوف افتقاد الأيدي العاملة فقط، بل ومن خشية الانخفاض في عدد ذوي الكفاءات والاختصاصات أيضا، فهم عادة نسبة معينة من فئة السكان المنتجين، وهم الفئة التي تلعب في الوقت الحاضر دورا رئيسيا في “احتكار التفوق التقني والعلمي”.
رابعا : أما ما يستحق وصفه بأخبث أساليب العمل على إقناع البلدان النامية بأن مشكلاتها مرتبطة بالحد من الإنجاب، فهو ما يمثل نوعا من “الإرهاب” بوسائل تُنسب إلى البحث العلمي مثل الدراسات المتوالية المنشورة عن نقص الغذاء ونقص الماء بعد ربع قرن أو نصف قرن وفق التوقعات الراهنة، وأن هذا النقص سيصيب البلدان الفقيرة بالذات، ولا تصح هذه التنبؤات إلا شريطة استمرار المنطلقات التي قامت عليها وملخصها “استمرار الاستغلال العالمي الراهن” من جهة، واستمرار التبعية كمنهج سياسي واقتصادي من جهة أخرى، كما تفرضه الفئات المسيطرة على أسباب السلطة في البلدان النامية. فالحديث مثلا عن حاجة البلدان العربية إلى استيراد مواد غذائية عام 2000م بقيمة تزيد على 30 مليار دولار كما حذرت إحدى المجلات العربية مؤخرا، حديث صحيح ولكن ما دامت السياسات السائدة في البلدان العربية مرفوضة بحكم المنطق والمصلحة، وهذا ما ينبغي أن يبدأ البحث عن الحلول بصدده كيلا تستمر على إهمال الدراسات والمشروعات والمخططات المنهجية الموضوعية في جامعة الدول العربية نفسها، والتي تؤكد على إمكانية تغطية الاحتياجات الذاتية، مع مراعاة المعدلات الحالية للزيادة السكانية ومع توفير إمكانات التصدير للخارج اعتمادا على الأراضي الصالحة للزراعة داخل الحدود العربية، والواقع يقول إن الشرط المطلوب لذلك هو ألا تبقى الحدود “بين” الدول العربية سدودا في عصر “الانفتاح” الذي تتساقط فيه سائر الحدود والأبواب والفواصل مع واشنطن وتل أبيب وأقرانها! كذلك فإن تحذير إحدى الجامعات الأمريكية مؤخرا بأن ثلث البشرية سيعاني من مزيد من النقص في مياه الشرب تحذير صحيح، ولكن صحته مرتبطة باستمرار الوضع الشاذ الراهن الذي يرمز إليه كمثال واحد، قيام شركات غربية -وشركات وطنية أيضا تحت وطأة الديون الخارجية وارتفاع أسعار المنتجات الصناعية- باستئصال الأشجار في البلدان النامية وتصديرها أخشابا إلى كل المصانع الغربية، دون التعويض عنها بمشاريع التشجير كما تصنع تلك الشركات الغربية نفسها داخل البلدان الغربية حفاظا على ثروة الغابات وما تعنيه بالنسبة إلى المناخ وتوفر المياه.
لن يستقيم البحث في مشكلة ازدياد السكان دون أن يقترن بالبحث في قضايا الموارد واستغلالها القويم وفق مصلحة البلدان النامية، وبالعمل على إزالة الخلل الفاحش في العلاقات الاقتصادية العالمية، ليعود وضع “الأسرة” البشرية إلى طبيعته بدلا من بقائها كما هي الآن، فريق صغير من المترفين في الشمال وآخر كبير من المستعبدين في الجنوب!
التضليل في الحل المطروح
الحل الوحيد المطروح للمشكلة بعد الانحراف في تصويرها وبحثها، هو وقف الإنجاب في البلدان النامية، وكل ما يتفرع عن ذلك هو من قبيل الوسائل، وقد أصبح معظمها يرتبط بالمرأة ووضعها الاجتماعي كما هو معروف. وهنا تكتمل حلقات التضليل الفكري والتطبيقي، فمسألة تشغيل المرأة كوسيلة للحد من الإنجاب بحجة أن هذا هو الطريق لتأمين النمو، وتصوير ذلك وكأنه الطريق الذي اتبعته الدول الغربية في نهضتها الصناعية، يمثل درجة من التزوير تثير الخجل، لا سيما عندما يشارك فيها علماء ومعاهد جامعية ومؤسسات لها “مكانتها”!
إن تشغيل المرأة كان نتيجة ولم يكن سببا في النهضة الغربية التي بدأت فكرا وحركة قبل خمسة قرون وتصنيعا قبل قرنين، ولم تطرح حكاية تشغيل المرأة تحت عنوان “تحريرها” إلا بعد أن وصلت حركة التصنيع إلى ذروة توصف بالثورة الصناعية، ولم يوصل ذلك -بعد أكثر من مائة وخمسين عاما تقريبا- إلا إلى التشغيل دون التحرير بمفهومه المطروح في الغرب، فالمرأة الغربية موجودة بنسبة 80% من العاملين في قطاعات الدعارة والإباحية والجنس حيث توجد المرأة كسلعة، وبنسبة 50 – 60% في المصانع والمكاتب، وبنسبة أقل من 10% في مختلف القطاعات التوجيهية والإدارية والقيادية على مختلف الأصعدة الاقتصادية والسياسية والقضائية، وهي المجالات التي تفترض أنها تمثل تحرير المرأة. وحتى في حالة التسليم جدلا بارتباط تشغيل المرأة بحقوقها وبالنهضة، فهو لم يبدأ في البلدان الصناعية إلا في فترة الحاجة الكبرى إلى الأيدي العاملة، وليس في فترة وصول معدلات البطالة إلى 50% وسطيا كما هو الحال في البلدان النامية في الوقت الحاضر، وبعد ابتداء حركة التصنيع وانتشارها، وليس في مرحلة استيراد أبسط المنتجات الصناعية من الخارج كما هو الحال في البلدان النامية الآن..
والغريب أن قضية تشغيل المرأة مطروحة على البلدان النامية الآن بشدة، يرمز إليها مثلا اعتبار ذلك شرطا من شروط القروض الإنمائية أحيانا، وذلك في فترة لم تعد تنقطع فيها الدراسات الغربية القائلة بأن النسبة العظمى من أسباب ارتفاع معدلات الجريمة وألوان الإدمان وانتشارها، ومشكلات جيل الناشئة والشبيبة على مستويات عديدة، ووصول هذه الأمراض الاجتماعية بما فيها الجريمة إلى فئة الأطفال..، جميع ذلك علاوة على ارتفاع معدلات الطلاق، وارتفاع نسبة النساء المشردات، وانتشار ظاهرة إيذائهن بدرجات تتراوح بين الضرب المبرح والاغتصاب، إنما يعود وفق تلك الدراسات إلى ظاهرة “تفكك الأسرة” بعد تشغيل المرأة، أو بعد ما يستحق وصف “أحدث صور استعباد” المرأة مع تجنيدها بنفسها لضمان استمرار ذلك، وإنما كان في واقع الأمر أثرا من آثار انحراف القيم والتصورات انحرافا هبط بأسمى المهام البشرية إطلاقا، والتي تجعل الجنة تحت أقدام الأمهات، إلى مستوى مهمة “كريهة” وبالتالي إلى ظاهرة العزوف عن الإنجاب في بلدان الشمال، وذلك بالذات ما يحاول أهل الشمال التخلص منه دون جدوى. فما المنطق الذي يمكن أن يبرر طرحه كمحور لحل قضايا السكان والتنمية في بلادنا، إلا إذا اعتبرناه صورة مماثلة للصورة المعروفة عن تصدير منتجات طبية وكيماوية ضارة إلى بلادنا النامية، وهي بسبب أضرارها المعروفة الثابتة محظورة قانونيا في الأسواق الاستهلاكية في البلدان التي تصدرها إلينا؟!
ويزيد أسباب الاستغراب تجاه هذه الوسائل المطروحة وأمثالها للحد من الإنجاب، أنها مقترنة بالمطالبة بإنفاق مبالغ خيالية. ومثال ذلك ما طرح قبل شهور في المؤتمر السكاني العربي في الأردن، وكان عبارة عن سلسلة من المشاريع تتمة الموضوع في ص 7
الانفجار السكاني العالمي
بهدف إيجاد الظروف التي تدفع إلى تشغيل المرأة، وكان تقدير تكاليف تنفيذها وفق ما ذكر في المؤتمر نفسه ما يعادل بمجموعه أكثر من 300 دولار على الفرد الواحد من سائر سكان البلدان العربية، على مدى عشرة أعوام مقبلة، أي أكثر من 600 مليار حتى عام 2004م، أو 60 مليارا في السنة الواحدة.
ماذا لو وضعت تلك التكاليف لتنفيذ مشاريع لتحرير حقيقي للمرأة أو للمواطن عامة في البلدان العربية والإسلامية، من مختلف أشكال الاستعباد والاستغلال، السياسية والاقتصادية، الخارجية والداخلية..؟ أو وضعت على الأقل لتنفيذ المشاريع الجاهزة ولكن المهملة، للتنمية الاقتصادية الزراعية والصناعية والتجارية المشتركة في البلدان العربية؟.. هل يمكن آنذاك أن تنشر مجلة عربية عنوانها المثير بالخط العريض على غلافها : “القنبلة السكانية معركة العرب المقبلة”؟
لا يمكن فصل قضية إنجاب الأطفال أو ازدياد السكان في العالم ككل أو في منطقة معينة منه، عن إطارها الاقتصادي والسياسي. وإذا نظرنا في أمثلة أخرى لا مجال للتفصيل فيها، كدور عدد السكان المسلمين أو ما شاع التعبير عنه بالعامل الديمغرافي في قضية البوسنة والهرسك، أو كتمييز البعثات الكنسية في إفريقيا بين دعم الحد من النسل في صفوف المسلمين وتوزيع وسائله مجانا، وتشجيع التكاثر في صفوف النصارى مع تحريم وسائل الحد منه عليهم، لأدركنا على الفور أنه لا يمكن فصل قضية الإنجاب ومسألة ازدياد السكان في العالم أيضا، عن أبعادها العقدية والحضارية والثقافية، وليس عن إطارها السياسي والاقتصادي فقط. وعندما نعود بالقضية إلى مكانها الطبيعي، تتحول من “حملة” صادرة عن دول وقوى أجنبية من أجل تحقيق أهدافها الذاتية، إلى قضية من القضايا المطروحة من منطلقاتنا الذاتية نحن لتحقيق أهدافنا المشروعة نحن، داخل إطار صناعة الإنسان المسلم والمجتمع المسلم في عالمنا وعصرنا، في عملية لا تنفصل عن صناعة النهضة الاقتصادية والعمرانية على أسس حضارية إسلامية متميزة. ولن يكون سلوك هذا الطريق ممكنا دون التوصل إلى “السيادة الحقيقية” في اتخاذ القرار وفي صناعته داخل بلادنا الإسلامية.
عن قضايا دولية، بشيء من التصرف ع : 226.
التعليم الاصيل
الديانة التي بها قوام الأمة وبقاؤها، فإذا زالت الموانع، وسعت مناهجها من جديد، وبقيت هكذا بين مد وجزر منذ دخول الإسلام، إلى أن طاف عليها طائف من الإستعمار النصراني بكل ما يختزنه من حقد صليبي أسود ففرض مناهجه وثقافته الإستعمارية الإلحادية الإباحية.
والإستعمار كله رجس من الشيطان وألعن أنواعه ما كان فرنسيا إذ لم يبق لهذا التعليم سوى هامش ضيق، بعد أن قطع عنه كل الروافد والموارد، وشدد عليه الخناق، فأصبح معزولا عن الحياة، مفصولا عن تدبير المجتمع.
وبالرغم من أن الإستعمار في شكله المباشر قد ولى، فإن فكره وثقافته ومناهجه ومفاهيمه، وتصوراته، استوطنت أرضنا وديارنا، وحولت أجيالنا عن وجهتها الأصيلة وعن انتمائها الثقافي والحضاري. فما هو المخرج لنا من هذا الواقع وكيف نعيد ترتيب أمورنا، ونجدد عزمنا على خوض نضال حضاري وثقافي، ينتهي بفك الإرتباط بيننا وبين الإستعمار؟
ذلك هو السؤال الذي لا بد من الإجابة عنه بوضوح وسيبقى مطروحا حتى يجد جوابه فإن نحن عجزنا عن ذلك اليوم، فقد يجيب عنه أبناؤنا غدا، عندما تنشط في كيانهم خلايا العودة إلى الذات. >وإن غدا لناظره قريب<.