افتتاحية
ومن جنوب إفريقيا دَرْسٌ وعِبْرَةٌ
لَقَدْ انتَهَى الحُكْمُ العُنْصِرِيُّ بِجَنُوبِ افريقيا، وانتَهَتْ مَعَهُ خُرَافَةُ المَيْزِ العُنْصُرِيّ التِي احْتَكَرَ الرَّجُلُ الأَبْيَضُ بمقْتَضَاهَا في تِلْكَ البِلاَدِ الحكْمَ والسِّيَادَةَ والاستِئْثَارَ بِثَرَوَاتِ البِلاَدِ، وحُقُوقِ الإنْسَانِ، حَيْثُ كَانَ يُعَامَلُ سُكَّانُ البِلاَدِ الأَصْلِيُّونَ مُعَامَلَةً أَحَطَّ مِن مُعَامَلَةِ الإنْسَانِ للْحَيَوَانِ، يُسْتَغَلُّونَ أَبْشَعَ اسْتِغْلاَلٍ، ويُهَانُونَ أَفْظَعَ أَنْوَاعِ الإِهَانَاتِ، وَمَعَ ذَلِكَ لاَحَقَّ لَهُمْ فِي اعْتِرَاضِ أَو شَكْوَى أَوْ امْتِعَاضٍ.
واحْتَاجَ شَعْبُ جَنُوبِ افْرِيقْيَا إِلَى أَكْثَرَ مِن ثَلاَثَةِ قُرُونٍ مِن الذُّلِّ والظُّلْمِ والإِهَانَةِ لِيَنْتَفضَ ويُدَافِعَ عَن حُقُوقِهِ دَاخِلِيّاً وخَارِجِيّاً بِكُلِّ الوَسَائِلِ المُتَاحَةِ لَهُ، ويُقْنِعَ العَالَمَ بِأَنَّهُ صَاحِبُ قَضِيَّةٍ عَادِلَةٍ، واحْتَاجَ الرَّأْيُ العَامُّ العَالَمِيُّ إِلى زَمَنٍ طَوِيلٍ أَيْضاً، لِيَقْتَنِعَ بِأَنَّ الإِنْسَانَ الأَسْوَدَ هُوَ كَالإنْسَانِ الأَبْيَضِ في الحقُوقِ والمَشَاعِر والمطَامِحِ والتَّطلُّعَاتِ والكَرَامَةِ الإنسَانِيَّةِ التي لاَفَرْقَ فِيها بَيْنَ أَبْيَضَ وأَسْوَدَ، ولابَيْنَ أُرُوبّي وإفْريقيٍّ، ولابَيْنَ شَمَالِيٍّ وجَنُوبِيٍّ، فالكُلُّ يَنْبَغِي أَنْ يَعِيشَ مُكَرَّماً لَهُ حَقُّ التَّفْكِيرِ فِي مَصَالِحِهِ ومَصَالِحِ مُجْتَمَعِهِ، ولَهُ الحَقُّ فِي الإعْتِرَاضِ عَلَى من اسْتَبَدَّ وطَغَى، ولَهُ الحَقُّ في الوُصُولِ إلى القِيَادَةِ وأَخْذِ زِمَامِ الحُكْمِ والتَّوْجِيهِ عَنْ طَرِيقِ الإخْتِيَارِ الشَّعْبِيِّ…
ولَقَدْ هَلَّلَ العَالَمُ كُله أَبْيَضُهُ وأَسْوَدُهُ وأَحْمَرُهُ، عَرَبُهُ وعَجَمُهُ، صِغَارُهُ وكِبَارُهُ لِهَذَا الانْتِصَارِ الدِّيمُقْرَاطِي الرَّائِعِ الذي حَقَّقَهُ السُّودُ على البِيضِ بِجَنُوبِ افرِيقْيَا، وحُقَّ لَهُ أَنْ يَفْرَحَ ويُهَلِّلَ، لأَنّ المَيْزَ العُنْصُرِيَّ كَانَ وَصْمَةَ عَارٍ في جَبِينِ الإِنْسَانِيَّةِ كُلِّهَا.
إذا كَانَ شَعْبُ جَنُوبِ افْرِيقْىَا احْتَاجَ إِلَى قُرُونٍ منَ الكِفَاحِ لِتَحْقِيقِ فَضِيلَةٍ إِنْسَانِيَّةٍ وَاحِدَةٍ هِيَ فَضِيلَةُ المُسَاوَاةِ مَعَ الأَبْيَضِ فِي الحُقُوقِ والوَاجِبَاتِ مِنْ بَابِ لاَفَرْقَ، فَكَمْ تَحْتَاجُ شُعُوبُنَا الإِسْلاَمِيَّةُ مِنَ الزَّمَنِ لِتَقْتَنِعَ بِأَنَّ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تَعِيشَ إِسْلاًمَهَا فَرْدِيّاً وأُسَرِيّاً واجْتِمَاعِيّاً، وتَعْلِيمِيّاً، وإعْلاَمِيّاً، واقْتِصَادِيّاً… وبِأَنَّ مِنْ حَقِّهَا أَنْ تَخْتَارَ حُكَّامَهَا وِفْقَ المَوَازيِنِ الإِسْلاَمِيَّةِ، وبِأَنّ زُعَمَاءَهَآ غَيْرُ مَعْصُومِينَ مِنَ الخَطَإ، ولاحَقَّ لَهُمْ فِي مُصَادَرَةِ الرَّأْيِ المُعَارِضِ ومُطَارَدَتِهِ، وبِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ رِسَالَةً إِسْلاَمِيَّةً مِنْ حَقِّهِمْ أَنْ يَحْمِلُوهَا للْعَالَمِ ويُبَشِّرُوهُ بِحَضَارَتِهَا السَّعِيدَةِ.
وكَمْ تَحْتَاجُ مِنَ الزَّمَنِ أَيْضاً لِتُقْنِعَ العَالَمَ كُلَّهُ كِبَارَهُ وصِغَارَهُ، بِأنَّ الدِّيمُقْراطِيَّةَ لَيْسَتْ حَلاَلاً لِكُلِّ الشُّعُوبِ الكافِرَةِ، والمُلْحِدَةِ، والنَّصْرَانِيَّةِ، واليَهُودِيَّةِ، ولَكِنَّهَآ حَرَامٌ على الشُّعُوبِ الإِسْلاَمِيَّةِ. فَبِأَيِّ حَقٍّ يَتَآمَرُ الكِبَارُ ويَتَوَاصَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ لِعَرْقَلَةِ مَسِيرَةِ الدِّيمُقْرَطِيَّةِ إِذَا كَانَتْ نَتَائِجُهَا سَتُفْرِزُ صُعُودَ المُسْلِمِينَ إلى الحُكْمِ، وهَلْ مِنَ المَعْقُولِ أَنْ يُحْكَم المسْلِمُونَ بالمُلْحِدِينَ والمُنَافِقِينَ؟ إِنَّ الدِّيمُقْرَاطِيَّةَ هِيَ الدِّيمُقْرَطِيَّةُ سَواءٌ أَفْرَزَتْ نَتَائِجُهَا صُعُودَ الأَبْيَضِ أَمِ الأَسْوَدِ لِسُدَّةِ القِيَادَةِ والحُكْمِ والتَّوْجِيهِ، أَوْ أَفْرَزَتْ اليَهُودِيَّ والنَّصْرَانِيَّ فِي بِلاَدِ اليَهُودِ والنَّصَارَى، أَوْ أَفْرَزَتْ الصَّادِقِينَ مِنَ المُسْلِمِينَ فِي بِلاَدِ المُسْلِمِينَ.
يَظْهَرُ أَنَّ الوُصُولَ إِلَى تَحْقِيقِ هَذِهِ المَبَادِئ مَازَالَ فِي حَاجَةٍ إلى زَمَنٍ طَوِيلٍ مِنَ المُعَانَاةِ، والشَّرْحِ والتَّوْضِيحِ، والكِفَاحِ الإِعْلاَمِي المُسْتَمِيتِ، لإِقْنَاعِ الشُّعُوبِ والمُتَآمِرِينَ عَلَيْهَا مِنَ الدَّاخِلِ والخَارِجِ بِأَنَّ هَذِهِ الحُقُوقَ مِنَ المُسَلَّمَاتِ التِي لاَ يُكَابِرُ فِيهَا إِلاَّ أَصْحَابُ القُلُوبِ المَرِيضَةِ.