> مع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرذل الأصناف البشرية : الصنف المعرض عن هدى الله تعالى
عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >مَثَلُ مَابعَثَنِي اللهُ به عزوجل من الهُدَى والعلم، كمَثَل الغَيْثِ الكثير، أصابَ أرضاً، فكانت منها طائفةٌ نقِيَّة طيِّبَةٌ، قَبِلَت الماءَ، فأنبتت الكلأَ والعُشْبَ الكثير، وكانت منها أَجَادِبُ (1)، أمسكَت الماء، فنفع اللهُ عزوجل بها الناسَ، فشربوا منها، وسَقَوا، وزرعوا، ورَعَوْا، وأَسْقَوا، وأصاب منها طائفةً أُخرى إنما هي قِيعَان (2)، لاتُمْسِكُ مَاءً، ولاتُنبِتُ كلأ، فذلك مَثَلُ من فَقُه في دين الله عزوجل ونفَعَه ما بَعَثَني الله به فعلِمَ وعَلَّمَ، ومَثَلُ مَنْ لم يرفع بذلك رأْساً، ولم يقبَلْ هُدَى الله الذي أُرْسِلتُ به<(3).
هذا الحديث مثل رائع من أمثاله صلى الله عليه وسلم، يجسد الصورة المعنوية في صورة محسوسة ملموسة، وهي الغيث الذي يحيي الأرض بعد موتها، ويأتي الناس عند حاجتهم إليه، فتصبح الأرض به -بعد محلها وقحلها، وبؤس منظرها- زاهية راقية، دفَّاقة بالخيرات، معطاءة لنوالها، جوادة بخيراتها، إلا أن الأراضي جميعها لايشملها هذا الحكم، ولاينطبق عليها كلها، بل هي إزاءَ المطر ثلاثة أصناف :
1) صنف من الأراضي، يقبل الغيث الذي ألمَّ به، فيشربه، ويمتصه، ويخزنه، فتتفجر به أنهارُه، وتنهمر عيونُه، ويُنبت عُشْبه وكلأه، فيعم بذلك نفعُه الخليقة جميعها، وهذا الصنف هو المعني بقوله تعالى : >والبلد الطيب يخرج نباتُه بإذن ربه<الأعراف 57].
2) وصنف من الأراضي، ليس في الجودة والطيبوبة بمنزلة الأولى، إلا أنه يَستقبل الغيث، ويَحتفظ به في منحنياته وجداوله، فينتفع الناس به سقياً، وزراعة ورعياً، فهو وإن لم يتشربه، ولم يُدخله إلى أحشائه، إلاَّ أنه يحتفظ به لوقت الحاجة، فيُمدح من هذا الوجه.
3) وصنف من الأراضي،قاسٍ بطبعه، صلب جامدة، ليس ذا منحنيات ومنعرجات يستقر فيها الماء، وإنما هو -إضافة لصلابته- أرض مستوية كصفحة واحدة، فكل ماسقط عليها من مطر، يتزحلق ويتزلق، إلى ما يجاورها من أودية، وجداول، فلا يستقر عليها شيء، ولا ينفذ إلى أعماقها شيء.
هذه الأصناف الثلاثة من الأراضي، ضربت مثلا لثلاثة أصناف من الناس والمطر ضرب مثلا للوحي الإلهي الذي يحيي القلوب بعد موتها، ويلينها بعد صلابتها وقسوتها بأدران الجاهلية، وحمم المعصية.
- فصنف من الناس قبل هذا الوحي، وتشرب معانيه، وتفاعل معه وانفعل به، واختلطت معانيه بلحمه ودمه، وعقل عن الله ورسوله مرادهما، فأحال ذلك طاقة نورانية يضيئ بها داخله، وانعكس ذلك على خارجه سلوكاً وعملا، وتبليغاً، ومنافحة، ومجاهدة، فلا يصدر عنه شيء يخالف تعاليمه.
وهذا مثل للعالم العامل المعلم، الذي نفع نفسه، ونفع غيره، فهو بمثابة الأرض الطيبة التي شربت، فانتفعت ونفعت وهو المعني بالمثل القائل : >كل إناء بما فيه ينضح<(4) شرب حتى روي فبدأ يرشح بما فيه.
- وصنف من الناس قام بحفظ هذا الوحي وقبوله، وتعلمه، وتعليمه لمن يرغب فيه، ولكنه لا يَعمل بمضمونه، ولا يُمثله سلوكاً وعملا، وإنما يَحفظه ويُؤديه لمن يريد العمل به، فهو من هذا الوجه محمود، ويدخل في قوله صلى الله عليه وسلم من حديث ابن مسعود : >نضر الله امرأ سمع مقالتي، فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع<(5) وهو من الوجه الآخر مذموم، لأنه لا يعمل بعلمه، ويدخل في قوله تعالى : >أتامرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب، أفلا تعقلون<البقرة 43] وقوله تعالى : >ياأيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون، كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون<الصف 2-3].
وهذا الصنف بمثابة الأرض التي يستقر فيها الماء، وينتفع الناس به، دون أن ينفذ إلى باطنها، والعلم والعمل متلازمان، لأن العلم الصحيح، لاينتج إلا عملا صالحاً، فإذا لم يكن كذَلك، فليعاد النظر فيه، فإن فيه خللا ولابد، والعلم لايؤخذ إلا من يمثله، ويعمل به، قال مالك بن أنس : >كنا نأخذ من هدي الرجل قبل أن نأخذ من عمله<، وعلى هذا أجمع المتقدمون، ولا عبرة بقول المتأخرين : >فاجن الثمار وماعليك في الخشب<.
- وصنف من الناس، هو أرذل الصنفين السابقين، وأخسُّهما، وهو الذي لم يبال بهذا الوحي، ولم يلتفت إليه، ولم يخطر بباله أن يبحث عن تعلمه، ولا تعليمه، ولا العمل به، وهو المعْنِي بالأرض ذات قيعان، لا تمسك ماء لينتفع به الغير، ولا تحتفظ به في باطنها، فلقساوتها انغلقت، وأصبحت لا تدخل ولا تخرج، ولا تعطي ولا تأخذ، وهي المعنِيَّة بقوله تعالى : >والذي خبث لايخرج إلا نكداً<الأعراف 57].
وهذه الطائفة مذمومة من وجهين : وجه الاعراض عن الرسالة رأساً، ووجه عدم إبلاغها وإيصالها للغير. فمَشَاهِدُ الناس إزاء هذا الوحي، لاتعدو هذه الثلاثة، فلينظر اللبيب في أي مشهد يضع نفسه!!؟
(1) الأرض الصلبة التي لا ينضب منها الماء
(2) الأرض الملساء المستوية التي لا تنبت
(3) أخرجه البخاري في كتاب العلم -الفتح- 1/211/ومسلم في كتاب الفضائل – 4/1787-1788/ وأحمد في مسنده – 4/399/
(4) المقاصد الحسنة -320-
(5) أخرجه البخاري في الحج – الفتح- 3/670/ بمعناه، والترمذي بلفظه 5/34/
> أ -ع