قال تعالى : >إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام< سورة آل عمران جزء من آية 19].
التفسير :
إن التفسير لهذا الجزء من الآية القرآنية الكريمة البليغة، الجامعة المانعة، سيشمل النقاط التالية :
1) معنى الإسلام لغةً واصطلاحاً :
الإسلامُ لغةً هُو : الاستسلامُ والخضوعُ التَّامُّ بصفةٍ عَامَّةٍ، وهو أيْضاً الاِنقِيَادُ لأَمْرِ اللَّهِ تعالى بِدُون تَردُّدٍ أو ارْتِيَابٍ، وبِهَذاَ المعْنَى العامِّ كَانَ الخِطابُ الالَهِيُّ مُوجِّهاً إلَى جمِيع النَّاسِ بِأَن يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، ويَثْبُتُوا عَلَى الإِسْلاَمِ والطَّاعَةِ للَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ يَخْتِمُوا حَيَاتَهُمْ بِالإِسْلاَمِ، أَيْ بِالنًّيَةِ الصَّادِقَةِ، و الإخْلاَصِ التَّامِّ لِخَالِقِ المَوْتِ والحَيَاةِ، ومِنْ هُنَا كَانَ الدِّينُ أيْضاً في جَوْهَرِهِ وعُمُومِهِ لاَ يَخْرُجُ عَنْ دَعْوَةِ النَّاسِ لِلْخُضُوعِ للَّهِ تعالى، سَوَاءٌ الذِي نَزَلَ على نُوحٍ، أو هُودٍ، أو صَالِحٍ، أو مُحَمَّدٍ، عَلَيْهِم السلام جمِيعاً، فَكُلُّهُمْ دَعَا النَّاسَ إلى عِبَادَةِ اللَّهِ تعالى وطَاعَتِهِ وَحْدَهُ بِدُونِ شَرِيكٍ، وبِهَذَا الاِعْتِبَارِ يَكُونُ كُلُّ دِينٍ نَازِلٍ من السَّمَاءِ يُسَمَّى “إِسْلاَماً” قال تعالى : >إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُم الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُسْلِمُون<سورة البقرة 132].
الإسلام اصطلاحاً هُو : كما فسَّرَه الرسولُ صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل >أَنْ تَشْهَدَ أَن لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَ أَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وتُوتِيَ الزَّكَاةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ، وتَحُجَّ البَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً<رواه الإمام مسلم وغيره]. فَالإسْلاَمُ بِهَذَا المَعْنَى الاصْطِلاَحِيِّ تَخَصَّصَ وتَقَيَّدَ، وأَصْبَحَ عَلَماً واسْماً للِدِّينِ الْخَاتِمِ، والشَّرِيعَةِ الأخِيرَةِ التِي نَزَلَتْ عَلى خَاتِمِ الأنبيَاءِ والمرسَلين مُحَّمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، لأَنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ جَمَعَتْْ مَاسَبَقَ وَزَادَتْ عَلَيْهِ كُلَّ مُفِيدٍ صَالِحٍ للْبَشَرِيَّةِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ.
2) نُقَطُ الْتِقَاءِ الإسلامِ بِغَيْرِهِ مِنَ الأَدْيَانِ السَّمَاوِيَّةِ السَّابِقَةِ عَلَيْهِ :
إن نقط الالتقاء بين جميع الأديان السماوية تتلخص فيما يلي :
أ- في رَبَّانِيَّةِ المَصْدَرِ، فَكُلُّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ تعالى >إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَ النَّبِيئِينَ مِن بَعْدِهِ<سورة النساء].
ب- في وَحْدَةِ الأُصُولِ المُتَمَثِّلَةِ فِي شَيْئَيْنِ :
ü إِفْرَادِ اللَّهِ تعالى بالعِبَادَةِ >وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ<سورة الإسراء].
ü تَنْفِيذِ حُكْمِ اللَّهِ وَتَطْبِيقِ شَرْعِهِ الْقَائِمِ عَلَى رِعَايَةِ المَصَالِحِ، وَجَلْبِ المَنَافِعِ، ودَرْءِ المَفَاسِدِ، على حَسَبِ العَصْرِ الذِي بُعِثَ فِيهِ الرَّسُولُ، وذَلِكَ لِصَلاَحِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا والاَخِرَةِ > شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَاوَصَّى بِهِ نُوحاً وَالذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى وعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ…<سورة الشورى]. وإِقَامَةُ الدِّينِ تَطْبِيقُهُ بِعَقَائِدِهِ، وَشَرْعِهِ، وأَخْلاَقِهِ.
ج- وَحْدَةُ الهَدَفِ المتَمَثِّلِ فِي ابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالى مِنْ وَرَاءِ كُلِّ عَمَلٍ يَقُومُ بِهِ الإِنْسَانُ في هذِه الحَيَاةِ >وَمِن النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ<سورة البقرة] >إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً<سورة الإنسان].
3) علاقة الإسْلاَمِ بالأديَانِ السَّمَاويَّةِ السَّابِقَةِ :
إِنَّ دَعْوَةَ أَيِّ نَبِيٍّ تَقُومُ على دَعَامَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ : الْعَقِيدَةُ أَوَلاً، والتَّشْرِيعُ والأَخْلاَقُ ثَانِياً، ونَظْرَةُ الإِسلام لِمَا سَبَقَهُ مِنْ خِلاَلِ الدَّعَامَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ، تَتَضَمَّنُ :
أ- التَّصْدِيقَ والتَّأْكِيدَ : وذَلِكَ فيمَا يَخُصُّ الجَانِبَ العَقَدِيَّ، أي الإيمانِ بالله تعالى ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ، وتَحَمُّلِ كُلِّ إِنْسَانٍ مَسْؤُولِيَتَهُ فِيمَا يَخْتَارُهُ مِنْ طَاعَةٍ أوْ عِصْيَانٍ لِرَبِّهِ، فَكُلُّ نَبِيٍّ يُؤَكِّدُ على هَذِهِ الحَقِيقَةِ، ويُصَدِّقُ مَنْ سَبَقَهُ بِهَا، ويُبَشِّرُ بِمَنْ يَأتِي بَعْدَهُ دَاعِياً إِلَيْهَا، >وَإِذْ قَالَ عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يََدَيَّ مِنَ الثَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَاتِي مِن بَعْدِي إسْمُهُ أَحْمَدُ<سورة الصف].
ب- التَّكْمِيلُ والإتْمَامُ : وذَلِكَ فِيمَا يَخُصُّ الجَانِبَ التَّشْرِيعِيَّ وَالأَخْلاَقِيَّ، لأَنَّ هذا الجَانِبَ يَتَوَخَّى تَنْظِيمَ الْفَرْدَ والْمُجْتَمَعِ، على أَسَاسِ المُوَازَنَةِ التَّامَةِ بَيْنَ المَصَالِحِ الخَاصَّةِ والعَامَّةِ، وبَيْنَ دَرْءِ المَفَاسِدِ، وجَلْبِ المَنَافِعِ، فَكَانَ مِن الضَّرُورِيِّ -والحالَةُ هَذِهِ- أَنْ يُسَايِرَ التَّشْرِيعُ مَصَالِحَ الْقَوْمِ المَبْعُوثِ فِيهِمْ الرَّسُولُ، فَمِنَ العَبَثِ أنْ يُحَرِّمَ الدِّين -مَثَلاً- الخَمْرَ، والقِمَارَ، والرِّبَا، بَيْنَ قَوْمٍ لاَ يَعْرِفُونَ ذَلِكَ، ولاَ يَتَعَاطَوْنَ شَيْئاً مِنْهُ أَبَداً.
وَلَمَّا بَلَغَتِ الإِنْسَانِيَّةُ أَوْجَ التَّطَوُّرِ، اقْتَضَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تعالى أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا النَّبِيَّ الخَاتِمَ، بِالشَّرِيعَةِ الكَامِلَةِ، المُتَنَاسِبَة مَعَ كُلِّ تَطَوُّرٍ يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ، قال صلى الله عليه وسلم >إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتاً فَأَحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إِلاَّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ : هَلاَّ وُضِعَتِ اللَّبِنَةُ؟! فَأَنَا اللَّبِنَةُ وأَنَا خَاتِمُ النَّبِيئِينَ<رواه البخاري ومسلم].
ح- التَّصْحِيحُ و النَّسْخُ : بِمَا أَنَّهُ لاَ شَرِيعَةَ بَعْدَ الإِسْلاَمِ، فَقَد أُوكِلَ إلى هذِهِ الشَّرِيعَةِ، وَنِيطِ بِهَا -وهي الكاملة الشاملة- مُهِمَّتَانِ اثْنَتَانِ :
ü تَصْحِيحُ ما حُرِّفَ من العَقَائِدِ، والتَّشْرِيعَاتِ، والأَخْلاَقِ، في كِتَابٍ مُوَثَّقٍ مَحْفُوظٍ، ومَرْجِعٍ مَصُونٍ، وهُوَ القرآنُ العظيمُ الذي تَوَلَّى اللهُ تعالى حِفْظَهُ >إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ<سورة الحجر 9].
ü نَسْخُ بَعْضِ التَّشْرِيعَاتِ التِي لَمْ يَعُدْ لَهَا مَجَالُ، إِمَّا لأَنَّ فَرْضَهَا كَانَ عِقَاباً لِقَوْمٍ كَانُوا يَقُولُونَ : >سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا<سورة النساء] >وَعَلَى الذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرِ وَمِنَ البَقَرِ وَالغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورَهُمَا مِنَ الحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ<سورة الأنعام]. وَإِمَّا لِظُرُوفٍ أُخْرَى اقْتَضَتْهَا طَبِيعَةُ الرِّسَالَةِ الخَاتِمَةِ المُتّمَيِّزَةِ بِالْيُسْرِ وَالمُرُونَةِ. قال صلى الله عليه وسلم >أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي : جُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ فَلْيُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ، ولَمْ تَحِلُّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَةً، وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّةً<رواه الخمسة الا أباداود].
فَهَذَا الحَدِيثُ بِمَثَابَةِ التَّفْسِيرِ للْخَطِّ العَرِيضِ الذِي أَرَادَ اللَّهُ أن تَسِيرَ عَلَيْه الرِّسَالَةُ الخَاتِمَةُ، عَلَى يَدِ النَّبِيِّ الخَاتِمِ >يَامُرُهُم بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِم الخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ<سورة الأعراف]
وبِهَذا يَكُونُ الاسلامُ قَدْ هَيْمَنَ عَلَى جَمِيعِ الأَدْيَانِ السَّابِقَةِ، تَصْدِيقاً وَتَكْمِيلاً، وَنَسْخاً وَتَصْحِيحاً.
4) المزيَةُ الكُبْرَى للِشَّرِيعَةِ الخَاتِمَةِ : العَالَمِية.
إِنَّ المَزِيَّةَ الكُبْرَى التِي يَمْتَازُ بِهَا الإِسْلاَمُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأَدْيَانِ هِيَ عَالَمِيَّتُهُ، أَيْ أَنَّ رِسَالَتَهُ عَامَّةً لِكُلِّ النَّاسِ مِنْ مُخْتَلَفِ الأَزْمَانِ، وَالبَيْآتِ، وَالأَمَاكِنِ، حَيْثُ جَعَلَهَا اللَّهُ تعالى صَالِحَةً لِلإنْسَانِ في مُخْتلِفِ أحْوَالِهِ، وَأَطْوَارِهِ، وَمُسْتَوَيَاتِ رُقِيِّهِ الْحَضَارِيِّ.
وقَد جَعَلَها اللَّهُ تَعَالى عَامَّةً، وَعَالَمِيَّةً، لِتَوَفُّرِهَا عَلَى خَصَائِصَ عَدِيدَةٍ، مِنْهَا :
أ- حِفْظُ مَصْدَرِهَا وَأصُولِهَا نُصُوصاً وَتَطْبِيقاً :
نُصُوصُ الرِّسَالَةِ الإسْلاَمِيَّةِ تَتَمَثَّلُ في القُرْآنِ والسُّنةِ، أَمَّا القُرآن فقَد تَوَلَّى الله تعالى حِفْظَهُ بِنَفْسِهِ >إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ< إِلاَّ أَنَّ حِفْظَ القرآنِ يَقْتَضِي بالضَّرُورَةِ والتَّبعِيَّةِ حِفْظَ السُّنَّةِ أَيْضاً، لأَنَّهَا بَيَانٌ لَهُ، وحِفْظُ المبيَّنِ يَقتَضِي بالضَّرُورَةِ حِفْظَ البَيَانِ >وأَنْزَلْنَا إِلَيكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ للِنَّاسِ مَانُزِّلَ إِلَيْهِمْ<سورة النحل]، حتى لاَ يَقَعَ تَحْرِيفَ في الفَهْمِ والتَّأْويلِ.
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تعالى قَدْ تَوَلَّى حِفْظَ نُصُوصِ الرِّسَالَةِ، قُرْآناً وَسُنَّةً، فَإنَّهُ سُبْحَانَهُ وتعالى تَكَفَّلَ أَيْضاً بحِفظِهَا عَمَلاً وَتَطْبِيقاً بواسطة طائفةٍ مِن الأُمَّةِ، تتَوَلَّى تَجْدِيدَ الدِّينِ رُوحاً، وَفَهْماً، واقتِدَاءً بالنُّبُوَّة، -كُلَّمَا خَبَتْ جِذْوَةُ الإيمَانِ في النُّفُوسِ- وَمُقَارَعَةً للبَاطِلِ، وتصْحِيحاً للأوْضَاعِ -كُلَّمَا تَرَاخَت الهِمَمُ والعَزَائِمُ- إلى أن تَقُومَ السّاعَةُ >لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَاتِي أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ كَذَلِكَ إلى قِيَامِ السَّاعَةِ<رواه مسلم والترمذي وابن ماجه]، فَهَذِهِ الطائِفَةُ هِيَ التي أَنَاطَ اللَّهُ تعالى بِهَا مُهِمَّةَ تَجْدِيدِ الدِّينِ وإِحْيَائِه على رَأْسِ كُلِّ مِائةِ سنةٍ أو أقَلَّ أو أَكْثَرَ، حِفْظاً للنَّصِّ وتَطْبِيقاً لَهُ، لِتَبْقَى حُجَّةُ اللَّهِ قَائِمَةً على البَشَرِ.
ب- يَقِينُ رَبَّانِيَّةِ مَصْدَرِهَا :
بمَا أنّ الله تعالى تَوَلَّى حِفْظَ نُصُوصِ الرِّسَالَةِ الإسْلاَمِيَّةِ، فَهَذَا يُعْطِي اليَقِين بأنَّ هذِهِ الشَّرِيعَةَ لَيْسَتْ مِنْ وَضْعِ بَشَرٍ، قَاصِرٍ، جَاهِلٍ، عَاجِزٍ، مُتَأَثِّرٍ بالهَوَى والغَرَضِ، والمَكَانِ والزَّمَانِ، والثَّقَافَةِ والمِزَاحِ… وإِنَّمَا هِيَ مِن عِنْدِ الحَكِيمِ الخَبِيرِ العَالِمِ بمَا يَنفَعُ النَّاسَ، ويُصْلِحُ أحْوَالَهُمْ، وفوَائِدُ هَذِهِ الخَاصِّيةِ كَثِيرَةُ، أَهَمُّهَا : اطْمِئْنَانِ الإنسَانِ بأَنَّهُ يَعْبُدُ اللَّهَ حَقّاً، بالشَّرِيعَةِ التِي اخْتَارَهَا بِنَفْسِهِ للِنَّاسِ كَيْ يَعْبُدُوهُ بِهَا، وهَذاَ الاطْمِئْنَانُ يَجْعَلُ الانسَانَ مُرْتَبِطاً بخالِقِهِ ارتباطاً يَقِينِيّاً لا يَعْتَرِيهِ شَكٌّ أو ارْتِيَابٌ، أونِفَاقٌ وتَحَايُلٌ. فَرَبَّانِيَّةُ المَصْدَرِ تَفْرِضُ رَبَّانِيَّةَ التَّوَجُّهِ، وصِدْقِ الانْتِمَاءِ.
ح- الشُّمُولُ :
والمَقْصُودُ به أن الإسلام اسْتَوْعَبَ في تَشْريعِهِ وَمَبَادِئِهِ كُلَّ مَصَالِح الإنْسَانِ : دُنْيَوِيَّةً وَ أُخْرَوِيَّةً، فَرْدِيَّةً وجَمَاعِيَّةً، مَادِيَّةً ورُوحِيَّةً، عقَدِيَّةً وعِبَادِيَةً، سلْمِيَّةً وحَرْبِيَّةً، سِيَاسةً واقْتِصَاداً، تَنْظِيماً لِلأُسْرَةِ والمُجْتَمَعِ، ورَسْماً لِلْعَلاَقَاتِ الأُخَوِيَّةِ والدَّوْلِيَةِ، وإرشَاداً إلى كَيْفِيَةِ مُعَالَجَةِ الفِتَنِ الدَّاخِلِيَّةِ، وكَيْفِيةِ المُحَافَظَةِ عَلَى سَلاَمَةِ المُجْتَمَعِ من الرَّذَائِلِ والمَفَاسِدِ، وصدق الله العظيمُ إذ يقول >مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ<سورة الأنعام 38]، أَيْ مَا أَغْفَلْنَا في القرآن شَيْئاً مِن أمْرِ الدِّينِ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ النَّاسُ إِلاَّ بَيَّنَاهُ إِمَّا بالتَّفْصِيلِ، وإِمَّا إِشَارَةً إِلَيْهِ في كُلِّيَّاتِ الأَحْكَامِ، وَمَقَاصِدِ التَّشْرِيعِ، التي تَبْقَى دَائِماً مَادَّةَ الاجْتِهَادِ والاسْتِنْبَاطِ لِلْعُلَمَاءِ.
د- الوسطيةُ والتَّوازُنُ :
والمَقْصُودُ أنَّ تَعَالِيمَ الإسلامِ وشريعَتَهُ جَاءَتْ وسَطاً بَيْنَ الإفْرَاطِ والتَّفْرِيطِ، وبِذَلِكَ وَازَنَتْ بَيْنَ مَطَالب الرُّوحِ ومَطَالبِ الجَسَدِ، فَلاَ رَهْبَانِيَّةَ ولاَ حَيَوَانِيَّةَ، وَ وَازَنَتْ بَيْنَ مَصَالِحِ الفَرْدِ ومَصَالِحِ الجَمَاعَةِ، فَلاَ طُغْيَانَ لِلْفَرْدِ على الجَمَاعَةِ كَما في الْقِطَاعِ الرَّأسمَالِيِّ ولا طغْيَانَ للجماعَةِ على الفردِ كما في القطاع الاشْتِرَاكِيِّ… إلى غَيْرِ ذَلِكَ من الْوَسَطِيَّةِ الموجُودَةِ في التَّشْرِيعِ، والعِبَادَةِ، والأَخْلاَقِ لأنَّ الإسْلاَمَ يَجعَلُ الانسانَ مُنْسَجِماً معَ رُوحِهِ، وجَسَدِهِ، وعَقْلِهِ، وشُعُورِهِ، وجَمَاعَتِهِ، ووَقْتِهِ ورِسَالَتِهِ، وتَطَلُّعَاتِهِ. وفائدةُ الوسطية : أن الانسانَ لاَ يَتَنَاقَضُ مَعَ فِطْرَتِهِ، ولِذَلِكَ لاَ يَشْعُرُ بِالمَلَلِ أو الضَّجَرِ والقَلَقِ والنَّقْصِ في حَظِيرَةِ الاسْلامِ.
هـ- الجمعُ بيْن الثباتِ والمُرُونَةِ :
الثبَاتُ في الأصُولِ والأهْدافِ، ومَعْنَى هذَا أَنَّ في الدِّينِ مَنَاطِقَ ومَوَاضِعَ الخَوْضُ فِيهَا مُحَرَّمٌ، والتَّلاَعُبُ بِمَقَاصِدِهَا مُخْرِجٌ عن المِلَّةِ، كَالعَقَائِدِ، ومَا عُلِمَ من الإسلاَمِ بالضَّرُورَةِ، مثْلِ الصَّلاَةِ، والصِّيَامِ والزكاة، والحج، ومثلِ حِرمة الزّنَا، والرِّبَا، والقِمَارِ، والسَّرِقَةِ، والظُّلْمِ، والاستِبْدَادِ ومِثلِ وُجُوبِ تَحْكِيم الشَّرِيعَةِ كما أنزَلَهَا الله تعالى، وكَمَا يفهَمُهَا العُلمَاءُ الرَّاسخُون في العِلْمِ والإِخْلاَصِ والتَّقْوَى، ومثلِ وُجُوبِ مُوَالاَةِ المُسْلِمِين، وحِرْمَةِ مُوَالاَةِ الكَافِرينَ…فَهَذِهِ وأمثَالُهَا لاَ يُقْبَلُ فِيهَا الجَدَلُ والمُنَاقَشَةُ.
أَمَّا المُرُونَةُ واليُسْرُ فَمَجَالُهُماَ مُتَّسِعٌ، لأَنَّهُمَا خَطُّ الاسْلاَمِ ومَبْدَأُهُ الأصيلُ، فَمِنَ اليُسْرِ في الوَسَائِلِ، كوَسَائِلِ التَّعْلِيمِ، تتمة……………..ص 5 والشُّورَى، والتَّنْمِيَّةِ، والاقتصاد… إلى اليُسْرِ في أدَاءِ التَّكَالِيفِ… إلى تَرْكِ أبْوَابِ الاجتهاد مَفْتُوحَةً في الكثير من القضايَا السياسيَّةِ، والاجتماعيَّةِ. فَالبَابُ مَفْتْوحٌ لِلإِبْدَاعِ شَرْطَ البَقَاءِ في دَائِرَةِ >دَرْءِ المَفْسَدَةِ وَجَلْبِ المَنْفَعَةِ ابْتِغَاءَ إِعْلاَءِ كَلِمَةِ الله تعالى وسِيَادَةِ شَرْعِهِ<.
5) صور من التحريفات للأديان السابقة :
أ- في جَانِب العقيدة : قال تعالى : >وقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ وقَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ<سورة براءة]، >وَقَالَتِ اليَهُودُ والنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وأَحِبَّاؤُهُ<سورة المائدة]، >لَقَدْ كَفَرَ الذِىنَ قَالُوا : إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ<سورة آل عمران].
ب- في جَانِب التَّشْرِيعِ وَالأَخْلاَقِ : >اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُم أَرْبَاباً من دُونِ اللَّه…<سورة براءة]، حَيْثُ كَانُوا يُنَفِّذُونَ تَشْرِيعَ الأحْبَارِ والرُّهبانِ المتاجِرِين بالدِّينِ. >فَبِظُلْمٍ من الذينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيل اللَّهِ كَثِيراً وأَخْذِهِم الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ…<سورة النساء]، حَيْثُ حَرَّمُوا التّعاملَ بالرِّبَا فِيمَا بَيْنَهُمْ فَقَطْ، أَمَّا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ فَلاَ حَرَجَ ولاَ إِثْمَ، بَلْ يُؤْجَرُ وَيُثَابُ مَنْ يأكُلُ أَموَالَ النَّاسِ بِالبَاطِلِ >ذَلِكَ بأَنَّهُمْ قَالُوا : لَيْسَ عَلَيْنَا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ<سورة آل عمران]، والأُمِّيُّونَ غَيْرَ اليَهُودِ.
6) هَلْ على وجه الأرض اليوم دِينٌ سَمَاوِيٌّ غَيْر الإسْلاَمِ؟!
إِجَابَةُ الإسْلاَمُ : >إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ< >وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ< >اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلاَمَ دِيناً<سورة المائدة].
إِذَنْ فالدِّينُ الحَقِيقِيُّ الصَّحِيحُ النِّسْبَةِ لِلَّهِ تعالى هُوَ الإسْلاَمُ. لأَنَّ مَا سَبَقَهُ ثَبَتَ :
أ- أنَّهُ محرّفٌ في العَقَائِدِ، والتَّشْرِيعِ، والأَخْلاَقِ.
ب- أنَّهُ غيرُ تَامٍّ وغَيْرُ مُنْسَجِمٍ في تشريعه مع تطوُّرِ البَشَرِيَّةِ واتِّسَاعِ أفُقِهَا.
ج- إنَّ الإسْلاَم أتى بمَا سَبَقَهُ، وزَادَ عليْهِ في التشْرِيعِ >وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ<سورة المائدة].
والتحريفُ في أيِّ جُزْئِيةٍ من جُزئياتِ الدين وحده كافٍ لِنَزْعِ الأهليّة منه، والتّعبّد به، ولا حقَّ لأحدٍ اليَوْمَ في أَنْ يَدَّعِي أَنَّه على دينٍ صَحِيحٍ غَيْر المُسْلِمِينَ، هذِهِ حَقِيقَةٌ لا يَجِدُ المُسْلِمُ حَرَجاً في الجَهْرِ بِهَا في كُلِّ المَحَافِل العِلْمِيَّةِ، واللِّقَاءَاتِ والحِوَارَاتِ الدِّينِيَّةِ وأَمَّامَ كُل أَئِمَّةِ الفِكْرِ الكُفْرِي، بِدُونِ أنْ يَخْشَى الانْهِزَام شَرِيطَةَ التَّحَلِّي بالعِلْمِ والحِكْمَةِ، والإِخْلاَصِ والفِقْهِ.
فأي فطرة سليمة تقبل الدينونة والخضوع لإِلَهٍ مُتَّصِفٍ بأَوْصَافِ البَشَرِيَّةِ :
ü يَتَزَوَّجُ وَيَلِدُ : >وَخَرَّقُوا لَهُ بَنِينَ وبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ<سورة الأنعام].
ü وَيُحابِي أَوْلاَدَهُ فَيُوثِرُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ >نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ<.
ü وَفَقِيرٌ يَحْتَاجُ إِلَى الرِّفْدِ والمَعُونَةِ مِن أَبْنَائِهِ وأَحِبَّائِهِ >إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ<
إِنَّهَا لأَهْوَاءُ البَشَرِيَّةُ تُلْبَسُ أَتْوَابَ الدِّينِ للِتَّمْوِيهِ والخِدَاعِ والتَّضْلِيلِ.