المحجة مسلك المتبصرين الراشدين.
عن العرباض بن سارية -رضي الله عنه- قال : >وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظةً ذَرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، فقلنا : يارسول الله، كأنها موعظة مودِّع، فماذا تعْهد الينا؟ قال : تركتكم على البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يَعشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وعليكم بالطاعة، وإن عبداً حبشياً، فإنما المؤمن كالجَمل الأليفِ، حيثما قيد انقاد<أخرجه ابن ماجة واللفظ له وأحمد في المسند وغيره].
إن الوحي الإلهي، مازال -ولن يزال- معيناً لا ينضب، ومورداً لا يخيب وارده، فإذا تجددت الخطوب على الأمة، وتغير واقعها، وأَقْعَدها الداء عن مواصلة السير، وجَدَتْ في هذا الوحي علاجاً لمشاكلها، وتجاوباً واقعياً مع همومها، فبشموليته تَجاوَبَ مع كل قطاعات الحياة، وبكلياته المطردة استوعب كل ما جَدّ ويجد من نوازل تلك الحياة.
والحديث النبوي الشريف -الذي بين أيدينا- ليس إلا نموذجا من تلك النماذج، ولوناً من تلك الألوان الزاهية، التي تفيض بالمعاني والعبر، وتتجاوب مع الفطرة، والشعور، والعقل، والواقع، وهذه الأبعاد الأربعة، لم تتجاوب معها أيُّ فلسفة من الفلسفات الأرضية، ولا أي قانون بشري من قوانينها.
ويمكن تلخيص ركائز هذا الحديث في أمور ثلاثة :
-أحدها : المعيارُ الذي تردّ اليه الأشياء عند الاختلاف في صوابها أو خطئها.
-ثانيها : مواصفات ذلك المعيار التي أهَّلَتْه أن يكون مرجعاً عند الاختلاف.
- ثالثها : الدال على هذا المعيار والمرشد إليه.
1) المعيار :
هذا المعيار هو ميزان الله، وهو قسطه المذكور في قوله تعالى : >وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط< الحديد 24] وهو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي لسان ذلك الميزان، ولا ميزان بلالسان، والمنطق العقلي -وحده- قاض بأن يكونا معيارين لا يحيفان، ولا ينحرفان، لأن ازدواج الخير بالشر في الأشياء، سنة كونية، وقانون حتمي، صاغه كذلك خالق الأشياء، ومالِك ناصيتها، وأرادها قدَراً أن تكون كذلك في الدنيا، ابتلاءً واختباراً، ومن ثمَّ، فالعاقل المتبصر يبحث عن ميزان لا يَخْتَلَّ، ليزن به الأشياء، إدراكاً لخيرها وشرها مميِّزاً لهذا عن ذلك، حتى يتَجَنَّبَ الشر ويَحْذَرَهُ ويَأْتي الخير ويعتبره.
ولما كان الميزان الذي لا يحور ليس في طوق البشر نصبه، لما يتسم به من نظر محدود بزمانه ومكانه، ومن جهل بخواص الأشياء وقوانينها في الغالب -كان من رحمة الله بعباده أن نَصَبَهُ لهم. وأرسل الرسل لتطبيقه وتجريبه على وجه البسيطة، حتى يُصْبح أمراً محسوساً ملمُوساً، لأن النفوس مجْبُولة على الإيمان بالمحسوسات، أكثر من المُجرَّدات النظرية التي لا يُدَعِّمها أيُّ رصيد واقعيٍّ.
فهذا المعيارهو الذي يطمئن الناس جميعاً لسلامته من الخطل والخطأ، وهو -وحده- الذي يسعهم جميعاً بعدله فيما اختلفوا فيه، قال تعالى : >كان الناس أمة واحدة، فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه< البقرة 211].
ومن شأن المختلفين التحاكمُ لمن يفصِلُ بينهم فيما اختلفوا فيه، بميزان لا يخضع لأهواء البشر وشهواتهم، ولا بد أن يكون من غيرهم ليحصل الاطمئنان اليه، فوقع لذلك الإضطرار والاحتياج إلى ميزان الله، لا إلى موازين البشر، لأنها مختلة. وميزان الله هو -وحده- الذي يجب أن تُوزَنَ به الأعمال، والأفكار، والسلوكات والطروحات، فما قَبِلَهُ فهو المقبول، وما رَفَضَهُ فهو المرفوض، ومعاييرُ الناس، لابُدَّ من تصحِيحها على هذا المِعْيار، كُلَّما أحَسُّوا ببطشها وجَوْرِها، ومن هنا كان لزاما على المسلمين معرفةُ ميزانِ الله تعالى وحُكْمِه في كل مجالات التشريع، والأخلاقِ والعقائدِ ليسيروا على بيِّنة من أمرهم، فالجهلُ بهذا الميزان سببُ الدَّاء.
2) مواصفات هذا المعيار
هذا المعيار هو المحجة البيضاء التي أشار إليها الحديث، وهو القسطاس المستقيم الذي أمرنا الله تعالى بوزن الأشياء به في قوله : >وَزِنُوا بالقسْطَاسِ المسْتقِيم< الشعراء 182] وهو الصراطُ المستقيمُ الذي ندعو الله أن يهديَنَا اليه في صلواتنا في سبعَ عشرةَ ركعةً بين اليوم والليلة في قوله : >اهدِنَا الصراطَ المسْتَقيم<الفاتحة 5] وهو الذي ُأُمِِرنا باتباعه أَمْرَ ايجاب في قوله تعالى : >وأَنَّ هَذَا صِرَاِطي مُسْتقيماً فاتَّبِعُوه<الأنعام 154].
وصراط الله دينُه. ويمكن ابراز أوصاف هذا المعيار فيما يلي :
1- أن هذا المعيارُ سَبِيلٌ، ومحجَّةٌ مُعَبَّدة، سُلِكَتْ قَبْلَنَا، سلكها الأنبياء والصِّديقُون والشهداء، والصالحون، فذلّلُوها بكثرة ماساروا عليها حتى صارت سهلة طيِّعة لمن يَبْتَغِي سلوكَها من السالكين، فلن يجدوا فيها ما يُعَثِّر سَيْرَهم، ولا ما يَعُوق رحلتهم، وهذا هو المعْنِيُّ بقوله صلى الله عليه وسلم : >عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشِدِينَ المهدِيِّين<.
ومادامت مسلوكةً معبَّدَةً بكثرة من سار عليها من المنعم عليهم، فإنها بالقطع مضمونة العاقبة مأمونة من جميع المخاطر، تحُفُّها السلامةُ من جميع جوانبها.
2- ومن أوصاف هذه المحجة أنها مستقيمةٌ، ومن دلالات استقامتها أن لَيْلَهَا كَنَهَارًهَا، في الاستضاءة، والهداية، والإنارة، فسالكُها مأمُون الجانب، سواءٌ سار فيها في الليل أو في النهار، لأن مناراتها ثابتة محكمة لاتتغير، تهدي السالكين من قريب ومن بعيد واستقامتُها تؤمًّن الاعوجاج والانحراف الذي يُسبًّبُ للسالكين الهلاك، ويَهْوي بهم في مكان سحيق، وكلما بعُد الناس عن مناراتها، كلما كثر بينهم الاختلاف، والشقاق، والفرقة، وهي أسباب الضعف والغثائية، وهذا المعنى هو المعْنِيُّ بقوله صلى الله عليه وسلم : >ومَنْ يعشْ منكُم بعدي فسَيَرى اختلافاً كثيراً، فعَلَيْكُم بسنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين<.
3- ومن أوصاف هذا الطريق المستقيم أنه يُوصِلُ إلى المقصود من أخْصَر طريق وأقرَبِ نُقْطة، واستقامتُه تَتَضَمَّنُ إيصَالَهُ الى المقصود، لأن الخط المستقيم، هو أقربُ خط فاصِلٍ بين نقطتين..التفسير القيم لابن القيم : ص10]
وكَفَى باستقامته أنَّهُ سلكه أعْلَى نماذج البشرية، وهُم الأنبياءُ ومَن تَبعَهم، وهُم القدوة، والأئمة، وهم النموذَجُ الحَيُّ في التطبيق والعمل، ولذا رَكَّزَ هذا الحديثُ وغيرُه على هذا النموذج الذي يُؤدي دَوراً رِيَاديّاً في حياة الأمة، فتتقوى بذكرِهِم العَزَائم حينما تَفترُ وتَكلُّ، ويُتَسَلَّى بالتأسي بهم في وقت النكبات والعظائم، ويُزَال بهم اليأس (حينما يُسَاوِمُ النفوسَ ويراودُهَا)، ليبقى بذلك تَصحِيحُ السير مُتواصِلاً في مَحَجَّةٍ لاحبة، وفي بيان واضحٍ ونداءٍ مفهومٍ للجميع، ومحجة يطمئن الناس فيها إلى مصايرهم وهم يَقْتَفُونَهَا.
4- ومن أوصاف هذه المحجة، سعتُها واستيعابُها لجميع المارِّين، إلا من أَبَى سُلُوكَها، وحَكمَ على نفسه بالهلاك، وهو على بصيرة من أمره، بعد قيام الحجة عليه، ففي حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >كل أمتي يدخلون الجنة إلاَّ مَنْ أَبَى، قَالُوا : يَارَسُولَ الله، ومَنْ يَأْبَى؟ قال : مَنٌ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّة، ومن عَصَانِي فقَدْ أَبَى<البخاري -في كتاب الإعتصام 13/263. وفي لفظ آخر عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : >أَلاَ كُلُّكُمْ يَدْخُلُ الجنة، إلا من شَرَد على الله شِرادَ البعير عَلَى أَهْلِهِ< أخرجه أحمد 4/258/ وهو حسن بغيره].
5- ومن أوصاف هذه المحجة تعيُّنُها -وحدها- مسْلكاً للنَّجَاةِ، فلا مَطْمَحَ في التخلص من المُوبقَاتِ في سُلُوكِ غَيْرِهَا، فإضَافَتُهَا إلى المُنْعَمِ عَلَيْهِم في قوله تعالى : >صراط الذين أنعمت عليهم<الفاتحة 6] ووصفُها بمخالفةِ صراطِ أهْلِ الغضب يَسْتَلْزِمُ تَعْيِينها طريقاً.التفسير القيم.ص 10].
وقد جَرَّبَ الناس -ومازالوا يُجَرِّبُون- غَيرها، فَوقَفُوا على شَفير الهلاك، ولن ينتشلهم منه إلا الرجوع لهذه المحجة، وليس لهم الاختيار في تقرير سلوكها من عدمه، فقد حكم الله في أزله بالضلال على من سلك غيرها، وصار ذلك سُنة وقانوناً كونيّاً مطرداً لا يتخلف، قال تعالى : >ومَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي، فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ أَعْمَى، قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيَ أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا، وَكَذَلِكَ اليَوْمَ تُنْسَى<طه 122-123].
3) المرشد إلى هذه المحجة، وهذا المعيار :
الأدلاء عليها أصَالَةً هُم الأنبياءُ، وتبعاً كُلُّ من سَلَكَ مَسْلَكَهُم إلى يوم الدِّين، ومن ثَمَّ فلا طمع في سلوكها من غيرِ دَلاَلَتِهم وإِرْشَادِهِم، فاستلزَم ذلك العلمُ بهم وبمَا جاؤوا به >فَأَعْلَى الهِمَمِ في طَلَبِ العِلْمِ، طَلَبُ عِلٌمِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ، والفَهْمِ عن اللَّهِ ورَسُولِهِ نَفْسَ المُرَادِ< الفوائد لابن القيم. ص61].
فالهمة العالية لا تَرْضَى إلا باقتفاء أثر هؤلاء، وهم أهل الهمم العالية فعَلى الناس أن يَرْفَعُوا هِمَمَهُم إلى مُسْتَوَاهُم مَا أَمْكَنَهُمْ ذلك ولا أَكْبَرَ من الاقْتِدَاءِ بالسَّلَفِ الصَّالِحِ للعَمَلِ على اصْلاح النفسِ وجَمْعِ شمل الأمة على ذَلِكَ.