التدرج في تغيير المنكر وإصلاح الفساد منهج نبوي أصيل


عن أبي سعيد الخدري ] قال :” سمعت رسول الله [ يقول : «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان»(رواه مسلم)

هذا الحديث أصل من أصول الشريعة في باب الإصلاح والدعوة إلى الله ومحاربة الفساد بجميع أشكاله ومختلف وسائله، فهو منطلق صمام الأمان، وأساس حماية هذه الأمة من الوقوع في الآثام، ما دامت متمسكة به، ومطبقة لمعانيه في مختلف مجالات شؤونها. ويمكن تناول هذا الموضوع من خلال المحورين التاليين:
أولا: مفاهيم الحديث وضوابط إعماله :
لهذا الحديث مفاهيم كبرى، صالحة لكل زمان ومكان، ومستوعبة لكل قضايا الناس مهما اختلفت. فقوله [ : «من رأى منكم منكرا» فعل رأى هنا؛ يشمل الرؤية البصرية للمنكر، ويشمل العلم بوقوعه أيضا، ويؤكد هذا المعنى ما ورد عن النبي [، حيث قال: «إذا عُملت الخطيئة في الأرض، كان من شهدها فكرهها وقال مرة: أنكرها، كمن غاب عنها، ومن غاب عنها فرضيها كان كمن شهدها».
قوله [ : “مُنْكَراً” المنكر: هو ما نهى الله عنه ورسوله، لأنه ينكر على فاعله أن يفعله. وهو عام في الأقوال والأفعال.
قوله [ : “فليغيره” هذه صيغة أمر تدل على الوجوب، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين، بيد أن الوجوب هنا كفائي في الأصل، إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف. ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
أما الضوابط الشرعية لتغيير المنكر فهي مستفادة من عموم نصوص الشريعة، ولا يتسع المقام هنا للاستدلال على كل ضابط؛ لأنني رمت الاختصار والإيجاز ما أمكن وهي كالآتي:
1 – المنكر الذي يجب إنكاره ما كان مجمعا عليه، فأما المختلف فيه فلا يجب إنكاره على من فعله مجتهدا فيه، أو مقلدا لمجتهد تقليدا مقبولا.
2 – ينهى عن المنكر من كان عالما بما ينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء؛ فإن كان من الواجبات الظاهرة، كالصلاة والصيام، أو المحرمات المعروفة، كالزنا والخمر ونحوهما فكل المسلمين عالم بهذا، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال مما يقتضي نوعا من الاجتهاد، لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره.
3 – أن يتيقن الناهي أنه منكر في حق الفاعل؛ لأن الشيء قد يكون منكراً في حد ذاته، لكنه ليس منكراً بالنسبة للفاعل. مثل المريض الذي يفطر في رمضان.
4 – أن لا يخاف الناهي حصول فتنة أكبر من المنكر الذي يريد تغييره، فإذا تحقق لديه حصول ذلك سقط عنه واجب التغيير إلى حين، لتعارض المفسدتين فيرتكب الأخف.
5 – أن يباشر الناهي تغيير المنكر برفق، وينتقي أفضل الوسائل وأنفعها، مراعيا في ذلك عامل الزمان والمكان، وأحوال مرتكبي المنكر، معتمدا مبدأ التدرج، والصبر، والحلم، لقوله [ : «إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف». ولقوله تعالى : «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»(النحل. : 125). وهذا مبدأ عام في الإصلاح والدعوة إلى الله.
ثانيا: صفة تغيير المنكر ومبدأ التدرج في مراتب الإصلاح:
هذا الحديث أصل في صفة التغيير، ومنهج أصيل للتدرج في مراتب إصلاح الفساد، فحق المغير أن يغير المنكر بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً؛ فيبدأ بما بدأ به الرسول [، حيث قال: “فليغيره بيده” لكن ليس على إطلاقه، بل مع القدرة والاستطاعة مع نوع من المشقة المقبولة في أصل التكليف. قال ابن شبرمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالجهاد، يجب على الواحد أن يصابر فيه الاثنين، ويحرم عليه الفرار منهما، ولا يجب عليه مصابرة أكثر من ذلك، وإن احتمل الأذى وقوي عليه فهو أفضل.
أ – التغيير باليد:
وهذا الشق من الحديث؛ أي التغيير بالفعل مسؤولية الدولة ومؤسساتها أولا، خاصة السلطة التنفيذية، والسلطة القضائية، وسوف تسأل عن ذلك أمام الله جل وعلا إن هي قصرت، أو ساهمت، أو سكتت عن منكر. ولا يجوز للعامة التغيير هنا؛ لأن من شأنه إثارة الفتنة التي غالبا ما يكون ضحيتها الأبرياء، فالعامة يكتفون بمقاطعة منابع المنكر والفساد، كما هو الحال مع وسائل الإعلام الحالية التي تسعى جاهدة مع الأسف الشديد لإدخال المنكر إلى بيوت المسلمين، وذلك عبر ما يبث فيها من برامج شعارها العري الفاحش، والكلام الساقط الذي لا يقبله الذوق السليم ناهيك عن قواعد الدين. وكل هذا يمارس ويعلن في قنواتنا رغم أنفنا، دون حياء أو خوف من الله عز وجل. وعلى الوزارة المكلفة أن تستعد للمحاسبة أمام الله تعالى على هذه الفضائح التي تنشرها وتمولها من جيوب المسلمين.
ب – التغيير باللسان:
قال [ : “فَبِلِسَانِهِ” أي فلينكره بلسانه، بالقول كالتوبيخ والإنذار.. وما أشبه ذلك، وينكره بالكتابة، في الصحف، أو يؤلف كتباً يبين فيها المنكر مع ضرورة الالتزام بمبدأ الحكمة، فالمنكر له مظاهر كثيرة البعض منها معروف لدى العامة والخاصة والبعض لا يعرفه إلا الخاصة.
فالمنكر في مجال الاقتصاد، الأدرى به خبراء هذا المجال، والمنكر في مجال الطب الأعلم به من يمارسون هذه المهنة، والمنكر في مجال القضاء يعرف أسراره وحقائقه موظفو هذا القطاع، وهكذا يجب على كل مسلم أن يبين للناس هذه المناكر التي قد تخفى وتتستر تحت أغطية كثيرة؛ مثل غطاء الفن والإبداع، وغطاء حرية التعبير، وغطاء المساواة بين الجنسين، وغطاء التنمية وتحسين مستوى العيش بالقروض الربوية الكبرى والصغرى، وغطاء المحافظة على الجنين من التشوه لشرعنة الإجهاض، وغطاء الأم العازبة للدفاع عن الدعارة و….
فالمنكر ينتقي لنفسه المفاهيم الجميلة، ليتلبد بها ويلدغ من تحتها كالأفعى، فتنتشر سمومه داخل جسم المجتع المسلم ليفتك به ببطء وبحذر. لهذا؛ وجب أن يتصف المصلح والداعية إلى الله بالذكاء والفطنة، ليكشف للناس البلاء الذي يهدد وجودهم. قال تعالى: {ولينصرن الله من ينصره}(الحج : 40). وقال تعالى: {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}(آل عمران: 101). وقال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}(العنكبوت: 69). ولا يسكت المسلم عن فاعل المنكر لصداقته، وطلب الوجاهة عنده، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها.
ج – التغيير بالقلب:
التغيير بالقلب وهو آخر مراتب الإيمان قال [ : «فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» دل هذا الحديث على وجوب إنكار المنكر بحسب القدرة عليه فيما سبق، وأما إنكاره بالقلب فلا بد منه، فمن لم ينكر قلبه المنكر، دل على ذهاب الإيمان من قلبه. وقد روي عن أبي جحيفة، قال : قال علي: “إن أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم، فمن لم يعرف قلبه المعروف، وينكر قلبه المنكر، نكس فجعل أعلاه أسفله”. وعن رسول الله [ قال: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة».
عندما يصل الإنسان إلى هذه الدرجة والعياذ بالله، فلا يؤثر المنكر في قلبه بحيث يصبح على ود وأخوة وصحبة مع الفساد، بل يدافع عنه ويرفع شعاره، فاعلم أن الله قد جعل على بصره غشاوة، وطبع على قلبه فقسا كالحجارة أو أشد، والكثير من أبناء هذه الأمة يرى ابنته وزوجته تخرج معه أو بعلمه وهي شبه عارية، فلا تتحرك مشاعر الغيرة والحياء في قلبه، ويرى رئيسه أو مرؤوسه يغش في وظيفته، أو يأخذ رشوة فلا ينصحه، بل نتنافس في شراء المنازل الفاخرة، والسيارة الفارهة، والذهاب إلى السياحة والاستجمام للترفيه عن النفس بأموال القروض الربوية، بشعار الضرورة، وهذه قمة التطبيع مع المنكر قال تعالى : {وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون}(النمل: 24).
ما يستفاد من الحديث:
1 – الصراع بين الحق والباطل لن يتوقف، وعلى الداعية إلى الله أن يتعرف أساليب الباطل لدفعه ودرئه بحكمة.
2 – إن مهمة تغيير المنكر لا تبيح التجسس على الناس وتتبع عوراتهم، بل يحارب المنكر المعلن الظاهر بالتوجيهات المناسبة.
3 – المصلح يبدأ بنفسه أولا؛ ليكون قدوة في الصلاح والتقوى والانضباط، كي يعمل الناس بما ينصحهم به.
4 – يجب معاملة المخطئ برفق وعلم وحلم إلى أن يهديه الله إلى سبيل الرشاد.
ذ. محمد البخاري
المراجع:
جامع العلوم والحكم لا بن رجب. ج 2 ص 242
المعجم الصغير للطبراني رقم الحديث 220.
سنن أبي داود رقم الحديث 3784.
الزهد والرقائق لابن المبارك رقم الحديث 1332.
المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج.للنووي ج /2. ص :22 و 23

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>