رائد التراث العمراني : الـمرحوم  عبد اللطيف الحجامي 1


عند التحاقي بالمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بالرباط سنة 1988م تلقيت صدمة حضارية مصحوبة بشعور حاد بالغربة وأنا في بلدي المغرب، الذي كنت أحسبه بلد التراث العريق. وهو بحمد الله تعالى كذلك. لكن واقعه المعماري التاريخي شيء، وما يوجد في المدرسة شيء آخر.

فأنت تحس وكأنك في فرع من فروع مدارس فرنسا، حيث أساتذتي المغاربة مفرنسون أكثر من الفرنسيين؛ بل إن النطق بلغة الضاد كان غير مرحب به، وقد يكون سببا في احتقارك واعتبارك مفتقرا إلى ما يليق بعصر الحداثة.

حينئذ بدأت رحلتي في البحث عن رجال العمارة المتشبعين بروح التراث، الذين يفتخرون -بعلم وكفاءة عالية- بالانتماء إلى حضارة ممتدة في عمق التاريخ. وقد كان من الدوافع الأساسية إلى هذا البحث ارتباطي وشغفي بأي شيء له علاقة بالعمارة أو العمران المغربي الذي كبرت في أحضانه بمدينة فاس الأصيلة.

وبعد سؤالي المتواصل كان الجواب دائما عليك بالأستاذ عبد اللطيف الحجامي الذي كان يدرس طلبة السنة الخامسة وليس الأولى.

ورغم حداثة عهدي بالمدرسة لم أتردد في أن أزور هذا الأستاذ في مشغله المسمى “مشغل التراث”. وعند أول زيارة له بادرته بهذا السؤال: ما مصير من أتى لكي يدرس عمارة المغرب وليس عمارة فرنسا؟ فأجاب مبتسما : عليه بمشغل التراث، وطلب مني الالتحاق بفصله رغم أنني كنت في السنة الأولى.

وهكذا وللوهلة الأولى اكتشفت أن هذا الأستاذ يعبر فعلا عن بلده الأصيل المغرب بتواضعه وبعده الرسالي الواضح وحكمته البالغة، وبحضوري لأولى محاضراته بدأت رحلتي في أحضان التراث مع المربي الفقيد عبد اللطيف الحجامي.

وحيث إنه يصعب الإلمام بكل إنجازات المرحوم العلمية والإنسانية فإنني سأحاول عرض بعض خصوصيات أعماله وبعض مميزات شخصيته الفريدة.

> عبد اللطيف المعماري : رغم حداثة تخرج المرحوم كمعماري من أحد أشهر مدارس فرنسا وفي مرحلة كانت فيها البلدان العربية الإسلامية في حاجة ملحة لعقول أبنائها خصوصا بعد مرحلة الاستعمار ومحاولة بناء الذات أخذ الأستاذ الحجامي على عاتقه مسؤولية إنقاذ مدينته: مدينة فاس، وفاء لها وللحضارة التي تنتمي إليها.

ولقد كان تحمله لهذه المسؤولية بالمستوى الذي جعل منه أحد أقطاب التراث العالميين، وذلك انطلاقا من جعله قضية إحياء روح فاس قضية إنسانية عالمية، تعبر عن روح حضارة ومصير أمة، وصارت هذه المدينة بذلك محج المتخصصين المحترفين من مؤسسات عالمية كـ”اليونسكو” و”الايكروم” والبنك الدولي، فحول بذلك مسألة الحفاظ على فاس من قضية محلية بمدينة صغيرة إلى قضية دولية تستدعي الاحترام والتقدير، بالنظر إلى مستوى الاحتراف في المنهج والجدية والدقة في التطبيق.

وإنمما ينبغي تسجيله بهذه المناسبة اعتراف البنك الدولي الذي قدر بأن تجربة فاس من التجارب الفريدة جدا يمكن اعتبارها قدوة يستفاد منها في البلدان الأخرى.

وإذا أردنا أن نلخص فلسفة المرحوم التراثية انطلاقا من مصاحبته التي دامت حوالي العقدين من الزمن يمكن القول إنه كان يبحث في الحجر عن روح البشر، وفي حين كانت مدارس الحفاظ تتخصص في العمارة المجردة وتحفظ الآثار إلى حد الوثنية والتقديس، كان المرحوم يركز على إحياء الإنسان الذي هو صلب التراث مما جعله من أحد مؤسسي فكر التنمية في مجال الحفاظ على التراث الحي.

هذا البعد الجديد أعطى لمفهوم التراث دفعة قوية ليكون مركز المشاريع المستقبلية عوض أن يجمد في المتاحف، وأعطى دعما كبيرا لترسيخ استمرارية التراث الحضاري الذي هو أساس بناء هوية الأمة.

> عبد اللطيف المدرسة : كان المرحوم على علم أنه إذا تم الاعتماد فقط على موظفين لا يمكنه أن ينجح في مشروعه الحضاري ولهذا كان يقول دائما إن طلابه هم بمثابة جنوده، وفعلا أسس المرحوم مدرسة تراثية بامتياز. وكان مفهوم المدرسة الفكرية بالنسبة إليه يتجلى في أن الطالب ليس فقط عابر سبيل بل ينبغي له أن يشعر بانتمائه إلى منظومة نظرية ونسق فكري يتبناه في حياته الفكرية والمهنية انطلاقا من مبادئ راسخة. وقد كان ذلك مما يؤكد عمق أفكار الأستاذ وعظم أهدافه الرسالية التي لم تكن نابعة من الهوى بل تقف وراءها حكمة وبعد نظر يتجاوز حيز الزمان والمكان.

وربما يظن البعض بأن مدرسة المرحوم الحجامي كانت تستقطب من الطلاب المغاربة والمسلمين منهم فقط. وهذا خطأ شائع، فلقد تتلمذ على يد الفقيد طلاب من شتى أنحاء العالم ومن مختلف الديانات والأجْناس فألقى محاضرات في أرقى الجامعات في العالم كهارفارد وأوكسفورد ومعهد الأمير تشارلز.

إن الفقيد الأستاذ الحجامي يعتبر نموذجا للمربي والخبير الذي تحتاج إليه الأمة الإسلامية اليوم. كما يعتبر نموذجا للعالم الذي يكون سفيرا مقتدرا إلى العالم معتزا بعلمه وحضارته وقادرا على التواصل والإيصال باللغة المناسبة والأسلوب المناسب.

وبذلك أصبح الفقيد هو الخبير المغربي الوحيد المعتد به عالميا في مجال التراث، فاسمه كان دائما واردا في المحافل الدولية بالنظر إلى أهمية تدخلاته العلمية وتميز فكره المعماري الثاقب. وإن من بين الشخصيات العالمية التي انبهرت بأفكاره الأمير تشارلز والرئيس السابق للبنك الدولي جيمس وولفونسونغ.

> عبد اللطيف القائد : لا عجب أن تجد في شخصية المرحوم بالإضافة إلى ما سبق -من علمه وحكمته وذكائه الثاقب وتفانيه في العمل واعتزازه بتراثه- عدة سمات للقائد الناجح خصوصا أنه ينحدر من عائلة عرفت بالعلم والصلاح والجهاد والإشراف على تدبير شؤون الزاوية الحجامية. فكان أن اكتسب من أسرته ما يؤهله لأن يكون قوي الشخصية يمتلك قدرة كبيرة على الإقناع والمفاوضة.

وكان مما أضفى على هذه القدرة الاحترام والتقدير، وفاؤه لمبادئه مهما حلّ به من تحديات أو نزل به من صعاب وكان ذلك برهانا على اطلاعه العميق على خبايا تسيير وإدارة شؤون الأنام من والده وجده العالمين الجليلين.

وإن مما يؤكد ذلك مصاحبته الدائمة لوالده المرحوم الشيخ العالم المجاهد أحمد الحجامي، وهي مصاحبة كما تدل على بره بأبيه تدل على حرصه المستمر في التزود والتلقي.

ومن عجيب ما أحفظه عنه أنه كان رحمه الله تعالى لا يقبل من قائل أن يقول: لا يمكن فعل هذا أو لا أستطيع فعل ذلك؛ لأن كل شيء ممكن بالنسبة إليه، ولأن الخلل يكمن في الإنسان لا في الأشياء والأعمال، وبهذا صنع من مشروع المحافظة على فاس مشروعا رائدا لأنه لم يعتمد يوما على إمكانات الدولة المحدودة بل كان يجد دائما الموارد المالية والبشرية بالبحث عنها في الوطن وخارج الوطن، مما يبرهن على شخصيته  الفذة الرائدة الفعالة التي لا تفتر في البحث عن الفرص والوسائل دون النظر إلى المصلحة الشخصية المحدودة التي هلكت البلاد والعباد.

> عبد اللطيف العالم : لقد صحح المرحوم الحجامي رحمه الله تعالى بتجربته الرائدة مفهوم المهندس المعماري ووسع في دلالته، لنجد أنفسنا أمام المهندس العالم الملم بعلوم عمارة الأرض وفلسفتها ومقاصدها، المشبع بروح حضارية عظيمة. فتجاوز بذلك ضيق التخصصات العلمية الحديثة وقدم مثالا حيا للعالم المسلم الموسوعي.

لقد كان حديثه في الهندسة يتجاوز الحدود الضيقة في التخصص للتعبير بشكل واضح عن وضع العمارة في النسق القرآني لعمارة الأرض بشتى شروط الاستخلاف في الأرض مما أعطى لمعالجته العلمية بعدا فريدا أسهم به في تنبيه علماء الشريعة لضرورة العناية بعلوم البنيان والعمران التي اختفت عن الأنظار أزمانا.

وكان من حرصه على الإسهام بحظ وافر في ذلك اهتمامه بالبحوث إشرافا وتوجيها وذلك بتحقيق كتب النوازل والكتب الشرعية المتعلقة بأحكام البناء والبنيان. وبهذا رسخ العالم الجليل الحجامي فكرا جديداً للعمارة في العالم العربي الإسلامي لتمكين جيل جديد من المعماريين وجعلهم قادرين على فهم شروط عمارة الأرض للتمكن من الوصول إلى كمال العمران على النهج القرآني والنبوي.

ولقد كان رحمه الله تعالى حريصا على تنزيل تلك العلوم إلى واقع العمران وربطه النصوص بتراث المدينة لاستنباط الحلول مما أعطى لأعماله بعدا حيا وعمقا اجتهاديا، ومن أقواله في هذا المجال : “الميدان يحدد الأهداف والمنهجية”.

هذه بعض خصائص وفضائل أستاذنا الفاضل عبد اللطيف الحجامي أردت من خلالها أن أعبر عن أنه ما زال حيا بيننا بعلمه وعمله. نسأل الله العلي القدير أن ينزل عليه شآبيب رحمته ويسكنه فسيح جناته وأن يتغمده برحمته التي وسعت كل شيء.

 د. حسن رضوان رئيس قسم الهندسة المعمارية جامعة الشارقة


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “رائد التراث العمراني : الـمرحوم  عبد اللطيف الحجامي

  • نبيه عطا النونو

    ربطني بالمهندس العظيم عبد اللطيف الحجامي مشروع هام وكبير ولكنه لم يكتمل ربما بسبب وفاته رحمه الله أتمنى على الدكتور حسن رضوان أن يهتم بهذا المشروع وفاءا لأستاذه الكبير فإن رغب في ذلك سيكون من دواعي سروري أن يتصل بي على الرقم 00970599759966 أنا الآن أقيم في غزة فلسطين ,أو ترسل لي الصحيفة كيف يمكن التواصل مع الدكتور حسن مباشرة