نصوص متجددة : الضمير الأمريكاني وقضية فلسطين


تقديم :

كتب سيد قطب هذه المقالة منذ مايزيد عن نصف قرن بمجلة الرسالة المصرية،و إعادة نشرهذا المقال لعلها ترجع إلى أنه يكشف للجيل الحالي أن موقف واشنطن من القضايا العربية موقف ثابت لم يتغير و لن يتغير إذ ما كتبه قطب حين كتب ( في الخمسينيات ) يكاد يكون متطابقا مع الواقع الحالي بل يكاد يكون صورة كربونية بكامل تفاصيلها بما في ذلك اللاعبين الأساسيين سواء في الداخل العربي أو ما يسمون بـ “الشركاء” الدوليين في عملية السلام.

الضمير الأمريكاني واللّعبة الأمريكية

أخيراً يتكشّف ضمير (الولايات المتحدة) الذي تعلقت به أنظار كثيرة في الشرق، وحسبته شيئاً آخر غير الضمير الإنجليزي والضمير الفرنسي، وسائر الضمائر الأوروبية المعروفة.

أخيراً يتكشف ضمير (الولايات المتحدة) هذا، فإذا هو – ككل شيء أمريكي آخر – (ضمير أمريكاني)

أمريكا نسخة عن أوروبا

ولقد كان الكثيرون مخدوعين في هذا الضمير،لأن الشرق لم يحتك طويلا ًبأمريكا، كما احتك بإنجلترا وفرنسا وهولاندا، فلما بدأ الأحتكاك في مسألة فلسطين، تكشّف هذا الخداع عن ذلك الضمير المدخول الذي يقامر بمصائر الشعوب، وبحقوق بني الإنسان، ليشتري بضعة أصوات في الانتخاب.

وكلهم سواء أولئك الغربيون : ضمير متعفن، وحضارة زائفة، وخدعة ضخمة اسمها (الديمقراطية) يؤمن بها المخدوعون.

تلك كانت عقيدتي في الجميع، في الوقت الذي كان بعض الناس يحسن الظن بفريق ويسيء الظن بفريق، وكانت أمريكا في الغالب هي التي تتمتع بحسن الظن من الكثيرين.

فها هي ذي أمريكا تتكشف للجميع، هذا هو (ترومان) يكشف عن (الضمير الأمريكاني) في حقيقته، فإذا هو نفسه ضمير كل غربي، ضمير متعفن، لا يثق به إلا المخدوعون.

إنهم جميعاً يصدرون عن مصدر واحد، هو تلك الحضارة المادية التي لا قلب لها ولا ضمير، تلك الحضارة التي لا تسمع إلا صوت الآلات، ولا تتحدث إلا بلسان التجارة، ولا تنظر إلا بعين المُرابي، والتي تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس.

كره الأمريكيين ومن يثق بهم

كم ذا أكره أولئك الغربيين وأحتقرهم كلهم جميعاً بلا استثناء : الإنجليز، الفرنسيون، الهولنديون، وأخيراً الأمريكان الذين كانوا موضع الثقة من الكثيرين.

إنها الجريمة، تلك التي يقترفونها كل يوم في حق شعوبهم المسكينة، جريمة التخدير والتغفيل، وإنامة الأعصاب على الأذى، وهدهدة الآمال الباطلة، والأمانيّ الخادعة، في ذلك الضمير المأفون.

جحر الأفاعي الأوروبية

يقول نبي الإسلام الكريم – صلى الله عليه وسلم – : (لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين)، وها نحن أولاءِ نلدغ من الجحر الواحد مرات، ثم نعود في كل مرة إلى هذا الجحر نفسه، مغمضي الأعين نتطلب (الشهد) من جحور الأفاعي ولا نجرب مرة واحدة أن نحطمهذه الجحور، وأن ندوس هذه الأفاعي، وأن ننفض عن نفوسنا ذلك الوهم الذي يقودنا المرة بعد المرة إلى تلك الجحور

إنها الجريمة، تلك التي نعاودها مرة بعد مرة، الجريمة في حق النفس، والجريمة في حق الوطن، والجريمة في حق العقيدة، إنها الغفلة التي لا يستحق صاحبها الاحترام وهو يشهد على نفسه بالتغفيل

غفلة الحكام والسياسيين

ولكن من الحق أن لا نصُم الشعوب العربية بهذه الوصمة، إن هذه الشعوب لأذكى وأشد حمِية من أن ترضى لنفسها بالهوان، ولكنها تلك الحفنة من ساسة الجيل الماضي ببعض البلاد العربية. تلك الحفنة الرخوة المسنة الضعيفة المتهالكة، المهدودة الأعصاب، لا تقدر على الكفاح، ولا تدع الشعوب تكافح،لأن أنانيتها الأَثرة تمسكها عن الانسحاب من الميدان وتركه للقادرين

جناية المفاوضات

هذه الحفنة من ساسة الجيل الماضي هي التي اخترعت كلمات : المفاوضات والمحادثات، والمؤتمرات.. لماذا ؟ لأنها وسيلة سهلة لا تكلّف شيئاً، وتضمن كراسي الحكم والسلطة فترة من الزمان، وكلما همت الشعوب أن تسلك طريقها، وأن تواجه المستعمرين بذاتها حال هؤلاء بينها وبين المستعمرين، ووقفوا من دونهم يصارعون الشعوب، وتصارعهم الشعوب، فإذا أتعبهم الصراع مع شعوبهم راحوا يبثّون في الأمة روح الثقة بالمستعمرين، وراحوا يشيعون الآمال الخادعة في هذا الضمير المدخول.

تلك هي القصة، قصة الجحور والأفاعي، قصة اللدغ المتكرر من هذه الجحور، وإنها لمأساة، ولكن من العدل أن نبرئ منها الشعوب العربية، فلا تؤخذ بجريرة حفنة من الساسة.

سمات الضمير الأمريكاني :

لقد كان الكثيرون يفهمون أنه شيء آخر غير الضمير الأوروبي، فأراد الله – ولعله لخير هذه الأمة العربية المنكوبة – أن يكشف عن ذلك الضمير.. إنه ضمير مادي، ضمير الآلة التي لا تحس، وضمير التاجر الذي لا يتورع، ولا يهمه حق، ولا عدل، ولا حياء، وهل تملك تلك الآلة أن تنشئ إلا ضميراً من هذا القبيل ؟.

أبناء حضارة مادية :

ليست المسألة مسألة جنس ولا دولة، فليس الأمريكان خيراً من الإنجليز، وليس الإنجليز خيراً من الفرنسيين، وليس الفرنسيون خيراً من الهولنديين.. كلهم أبناء حضارة واحدة، حضارة مادية بغيضة لا قلب لها ولا ضمير، حضارة تأخذ ولا تعطي، وتجرح ولا تأسو، حضارة أنانية صغيرة مهما بدت من الخارج ضخمة ذات بريق وضجيج.

إنها حضارة زائفة لأنها لم تقدم للإنسانية زاداً من الروحية، ولم تحاول رفع الآدمية عن قانون الوحوش، وهل تطبق هذه الحضارة مع شعوب الأرض المنكوبة إلا قانون الوحوش ؟.

ثم يوجد بين أمم الشرق غافلون أو خادعون يثقون بأصحاب هذه الحضارة، ويراودون شعوبهم على الثقة بذلك الضمير ؟ ويثبطون عزائمهم عن الجهاد الحاسم، والكفاح المثمر في أنسب الظروف

صوت خافت هناك :

وبين ضجيج الآلات يرتفع بين آن وآخر صوت إنساني خافتفي تلك الربوع ينادي بالعودة إلى الله، كذلك الصوت الذي أرسله الكردينال (جريفان) في إنجلترا منذ أيام، حين ألقى في كاتدرائية (وستمنيستر) عظة دينية فقال : (لقد أبعد الله عن ميثاق الأمم المتحدة، وهذا هو السبب في أن الأمم المتحدة لم تستطع إلى اليوم أن تصبح (متحدة) فعلاً)، (وإنه لينبغي أن يكون لله ومبادئه القائمة على الإحسان والعدالة مكان في الشؤون الدولية، حتى تصبح الحرية حقيقة في العالم بأسره، ويعيش الإنسان في ظل السلام والأمن..).

ولكنه صوت خافت لا يُسمع في ضجيج الألات التي تغشى على صوت الضمير، ونغمة مبحوحة لا تُسمع بين صراخ المطامع، وعواء الشهوات، في ذلك العالم الهائج الشعور

طريق الخلاص وطريق الهلاك :

والآن – أيها الشرق – ماذا تريد ؟.

فأما إذا كنت تبغي الخلاص من براثن الوحش الغربي، فهناك طريق واحد لا تتشعب فيه المسالك، فهو أقرب طريق، اعرِف نفسك وراجع قواك، واستعد للصراع، وابدأ في الكفاح، ولا تستمع إلى صوت خادع يوسوس لك بالثقة بضمير الغرب المدخول. وأما إذا كنت تبغي الراحة مع ذلك الجيل المكدود المهدود من الساسة المترفين الناعمين، فأمامك طرق كثيرة ذات شُعب ومسالك، وذات منعرجات ودروب. هناك : المفاوضة، والمحادثة، وجس النبض واستطلاع الآراء.

وهناك الديبلوماسية الناعمة الرقيقة، والكلمات الظريفة، وهناك الانتظار الذي لا ينتهي، والاستجداء الذي لا يغني. وهناك المؤتمرات الحافلة. والموائد المستديرة، وهناك الكتب البِيض، والكتب الزّرق، والكتب الخُضر، وما لا ينتهي من الطرق والمنعرجات والدروب

الأمل والعمل :

والحمد لله – أيها الشرق – لقد تكشّف لك القناع عن آخر ضمير (الضمير الأمريكاني) الذي كانت تتعلق به الأنظار، أنظار الغافلين والمخدوعين

والحمد لله – أيها الشرق – إن شمسك الجديدة في شروق، وشمس هذا الغرب الفاجر في غروب، وإنك تملك من الرصيد الروحي، ومن ميراثك القديم ما لا يملكه هذا الغرب المتطاحن، الذي يأكل بعضه بعضاً كالوحوش، لأنه يحكّم قانون الغابة فيما يشجر بينه من شقاق لا ينتهي، وهل ينتهي الشقاق في الغابة بين الوحوش ؟.

إنها الفرصة السانحة – أيها الشرق – للخلاص فانفض عنك رجال الماضي الضعفاء المنهوكين، وابرز نفسك للميدان، فقضايا الشعوب في هذه الأيام لابد أن تعالجها الشعوب. وما قضية فلسطين إلا قضية كل شعب عربي، بل كل شعب شرقي، إنها الصراع بين الشرق الناهض والغرب المتوحش، وبين شريعة الله للإنسان وشريعة الغاب للوحوش.

< بقلم : الشهيد سيد قطب

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>