حياة القارئ بروح الوحي  والإيمان أجلُّ وأعمقُ معنى


هناك فرق شاسع بين الذين يستيقظون من نومهم وهم متلهفون لنصال الشموس وبين الذين يغرقون في نومهم جزعا من نصال الشموس، بين أولئك الذين لا يرون الكرى في أعينهم حتى تجد مهجتهم قد أترعت أملا وطموحا إلى الغد المنتظر وبين الذين لا يكاد يقلهم قطار النوم حتى يلجمهم سخط العناء والصبر، بين أولئك الذين يستديرون إلى الماضي فيبتهجون ويهمون إلى المستقبل البعيد القريب مخلصين العزم وبين الذين ينظرون إلى ما وراءهم بأبصار النادمين ويترنحون بين عاديات الحاضر  وماتي الدهر تائهين وبين الذين يقرؤو ن بعيون الوحي وهدايات الله تعاتلى وبين الذين يقرؤون يعيون الأهواء في سحب من أمواج الغرائز.

إنها لعمري تلك الفوارق لهي الفواصل بين الذين يقرؤون والذين لا يقرؤون. والمراتب بين الذين يقرؤون وهم مهتدون وبين الذين يقرؤون بغير هدى، فالقارئ تتسع في عينيه تلك الفوارق مع كل كتاب يقرؤه، أما الإنسان العادي فلا يجد فرقا يميز القارئ عنه، والقارئ الذي يقرأ  مهتديا بالوحي وهداه المنهاجي يبصر الحقائق وراء مظاهر المكان وحجب الزمان ويمتد بصره في سنن الله تعالى في الآفاق والذي يقرأ مكتفيا بحدود قدراته يقف عند أبعاده المادية وحدوده الضيقة.

قد لا تبدو القراءة ضرورة لبقاء الأجساد وتعمير الهياكل والأشكال، لكنها بحق العنصر الأساس في دوام المعاني وخلد البواطن والمضامين. إِذِ القارئ هو الفرح بعامل والحزين بعامل، أما الذي لا يقرأ فتطفح أفراحه وتهيج أتراحه ببواعث الصدف وشفقتها، لأن القارئ ينتبه دوما لمعاني الفرح والحزن، أما الذي لا يقرأ فلا يرمق سوى الفرح والحزن. والقارئ يقدِّر قيمة الزمن فَيتَبيَّنُه قلب الحياة النابض الذي وجب عليه رعايته وعدم إهماله، أما الذي لا يقرأ فيقبِّر قلب الحياة بإهماله ولامبالاته.

الإنسان وُجِدَ فوق الثرى بفطرة الرحمن على المعرفة والبحث والتنقيب، وذلك في سبيل مقاصد سامية ترتقي بالإنسان من سفح الجهالة إلى قمة الدراية، وظل الكتاب منذ فجر البشرية منبعا يرتوي منه القارئون، وسيظل أبدا ذلك المنبع الزلال الذي لا يشبهه شيء مما انفجر في هذا الزمان من تيارات المقروء والمسموع. والقارئ يسعى دائما لمعرفة سر من أسرار كيانه وكونه، أما غيره فيكتفي بوجوده الساعي إلى الرفاهية والرخاء الطبيعيين ولا يتدبر آية من آيات الخلق ساعة. وأكثر ما يميز القارئ عن غيره وأبقى، هو ذاك الفارق الذي يجعل القارئ أدرى بإنسانيته أصلا ومقصدا وبوظيفته في العبادة لله والهداية للخير واكتشاف أسرار الحياة بنور الله تعالى.

أما ما يثير الأسف على أمة الإسلام اليوم، المخصوصة بالدين الخاتم والرسالة الإيمانية العلمية العملية، والمكلفة برسالة إنقاذ البشرية، وصاحبة الدستور القرآني القويم، الذي نزلت أول آية منه كلمة “اقرأ” كأمر ملح ونصح راشد، أن تحتاج لمن يخبِّرُها شيئا عن قيمة القراءة حتى لا تقعد على السبيل الحضاري طالبة يد الهدى إلى أهميتها من الأمم الأخرى.

صحيح أن في القراءة تعبا، وأن في المعرفة تألما، وأن في حمل الحقائق عبءا ثقيلا، لكن يكفي الناظرين ابتسامة القارئين في تعبهم، وترنمهم في تألمهم، ونشاطهم في تحملهم، ونقاء فكرهم وهو يجوبون عوالم  الأكوان مقدرين عظمة الله تعالى الخالق الرازق، ففي ذلك أصدق الدلائل على مدى حلاوة ثمرة القراءة، ومن طبائع التمور فتور ريحها، فمن لا يذوقها لا يتأتى له معرفة حلاوتها أبدا.

زكرياء أزنود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>