مع سنة رسول الله ـ حفظ كتاب الله تعالى: تجارة لا تبور


حفظ كتاب الله  هبة ربانية غير ميسرة للجميع؛ فالقليل من قيض الله عزيمته لتلقي وحي الله بالحفظ والفهم والعمل، وفي ذلك أيضا تكليف وابتلاء للحامل له لا ينجيه أمام الله إلا أداء الأمانة التي في عنقه. وبما أن لكل نعمة حسود، فإن جنود الشيطان قد سخروا كل جهودهم لتشويه سمعة الحامل لكتاب الله ، حتى ينفر الناس من حفظه، وقراءته، والإقبال عليه. فما هي وظيفة الحامل لكتاب الله؟ وكيف ينظر المجتمع إليه؟

أولا: حمل القرآن رفعة وتكليف

الحاجة لحامل كتاب الله تعالى لا تنقطع أبدا؛ مهما تطورت الحياة وتغيرت الظروف، ولا يمكن تعويض مكانته ووظيفته بأي وسيلة كيفما كان نوعها؛ لذلك استحق الماهر بالقرآن مكانته الرفيعة كما في قولهﷺ: «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران». فالقرآن خطاب الله المباشر لكل البشر، لكن الذين عنوا بحفظه قلة من الناس، وهنا يكمن التكليف، فتفضيل الله لطائفة معينة من المسلمين ليكونوا حاملين لوحي الله هو اختيار إلهي، وتوفيق رباني؛  فيجب على حامل القرآن أن يشكر الله على هذه النعمة بتبليغها قولا وفعلا، مصداقا لقوله : «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله الكتاب، وقام به آناء الليل..» (صحيح البخاري).

ثم إن الأمة بكاملها مطالبة بتوفير الظروف الملائمة ليؤدي الحامل لكتاب الله رسالته التي كلف بها، من تحفيظ كتاب الله وتدريسه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالكل مطالب بتقديم يد العون كي يعم الخير الجميع، مصداقا لقوله : «مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة، ريحها طيب وطعمها طيب..» (صحيح مسلم).

فالأترجة ثمرة طيبة الظاهر والباطن، وكذلك يجب أن يكون الحامل لكتاب الله تعالى، قال ابن حجر: “وفي الحديث فضيلة حاملي القرآن وضرب المثل للتقريب للفهم”(1).

هذه الرفعة التي يتميز بها الحامل لكتاب الله تعالى، تعظم إذا كان متقنا لحفظه مصداقا لقوله : «الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة». والسفرة الكرام البررة؛ هم الملائكة؛ فهم رسل الله الطاهرة إلى الأنبياء الحاملون إليهم كتاب الله تعالى، والبررة المطيعون لأوامر الله، قال النووي: “معنى كونه مع الملائكة، أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقا للملائكة السفرة لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى”(2).

إن أفضل ما يمكن أن يحويه صدر المسلم هو كلام الله تعالى، ثم وجبت قرائته وحفظه، وفهمه، والعمل به، لأن السامع للقارئ المتقن الضابط، يتأثر بقراءته فيسعى إلى الفهم والعمل؛ لهذا السبب كان المشركون يسعون لمنع الناس من الاستماع إلى القرآن، قال : وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون (فصلت: 26).

فهذا الخوف من حفظ كتاب الله والاستماع إليه لازال مستمرا في عصرنا الحاضر؛ حيث بدأنا نسمع أن بعض الناس يزعجهم قراءة القرآن بصوت مرتفع، ويحتجون على ذلك، ويطالبون بمنع المكبرات الصوتية بالمساجد بدعوى الإزعاج، بل البعض كتب محتجا على خطب الجمع التي تتلى فيها آيات تتحدث عن اليهود والنصارى والمشركين، واعتبر ذلك عداء لمشاعرهم، ونسي أنه كلام الله خالق المسلم واليهودي وغيرهما، ولاشك أن مثل هذا يصدق عليه قوله : «ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، ليس لها ريح وطعمها مر» (صحيح البخاري).

إن حاملي كتاب الله تعالى يملكون السلوك الحسن والتربية على القيم الصحيحة الصالحة، والإخلاص في الحفظ والتلاوة والعمل، ليبارك الله لهم فيغلبون بإذنه تعالى، إذا توفر لهم شرطان:

1 – الثقة بالله والتوكل عليه وحده:

كلنا نعلم أن الحامل لكتاب الله من الناحية المادية يجد معاناة كثيرة لعدم الاعتراف به علميا، إذ غالبا ما يلحق بالأمي الذي لا يفقه شيئا، وحفظه لكتاب الله  لا يخول له الانخراط في وظائف الدولة، وهو يخضع لما يسمى بالشرط في عرف المغرب، فإذا كان إضعافه ماديا وتهميشه اجتماعيا أمرا مقصودا فإن الأمر يحتاج منا إلى إعادة غرس قيم الاعتزاز بالقرآن الكريم وحفظه لقوله : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه» (صحيح البخاري).

2 -  الثقة في النفس:

إن المؤمن القوي بإيمانه، وبوجوده، وبحمله لكتاب الله ، أحب إلى الله تعالى، فلا ينبغي أن نجعل كلام الله وسيلة للاسترزاق؛ لأن الله هو الرزاق، بل نعتبره فضلا وتكليفا ربانيا، نقابله بجهد وعمل لا ينقطع لتبليغ ما تم حفظه، مصداقا لقوله : «إن لله أهلين من الناس. قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته» (سنن ابن ماجه).

ثانيا: تصورات خاطئة تجاه الحامل لكتاب الله تعالى

لاعتبارات عديدة معظمها مقصود؛ يحمل الكثير من الناس اعتقادات خاطئة تجاه الحامل لكتاب الله تعالى، أذكر من ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:

1 – إنه جاهل بأمور الحياة المعاصرة وتطوراتها، فهو في نظرهم لا يفقه من واقع الناس شيئا، وأن وظيفته ملازمة المسجد للصلاة بالناس دون التدخل في أمورهم الدنيوية، وهذا تصور مخالف للعقل السليم؛ لأنه لا يعقل أن يكون الحامل لدستور الأمة الإسلامية لا يفقه أمر الناس، اللهم إذا كان الناس لا يخضعون لضوابط وشروط هذا الدستور، حينها نصدق هذه المزاعم باعتبار أن ما خرج عن واقع كلام الله فليس معنيا بخطاب الله إلا على جهة التوبة والأمر بالرجوع لواقع القرآن؛ لأن الخلاص فيه، لقوله : «إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين» (صحيح مسلم).

2 – إن وظيفته القراءة على الموتى وتكفينهم وغسلهم، وكأنه كلف للتعامل مع الأموات دون الأحياء، فالحاجة لحامل القرآن في نظرهم تشتد عند المصيبة؛ كالموت، وكتابات التمائم للصبيان، وعلاج المسحورين، وجلب الزوج للعوانس، والقبول للتجار، والمحبة للأزواج، وطرد الشيطان الذي تم إدخاله إلى البيت عند الفرح في عقيقة، أو زفاف، بسبب الرقص، والغناء، والاختلاط الماجن، والتبرج الفاضح، وغير ذلك من الشبه التي تؤدي إلى الإساءة لحامل كتاب الله، وتعطيل مهامه المحددة في قوله : «من قرأ القرآن فقد استدرج النبوة بين جنبيه غير أنه لا يوحى إليه..» (المستدرك للحاكم).

فالتبرك بالقرآن يكون في الحياة عن طريق حفظه وفهمه والعمل به، وبذلك تحصل البركة ويعظم الأجر. أما الميت فقد يتكلف بتغسيله وتكفينه أي مكلف من المسلمين، فهي ليست وظيفة الحامل لكتاب الله، فهو يقدم على جهة الفضل فقط إن كان في ذلك فضل وتشريف لمكانته، أما إذا كان العكس هو المقصود فليمتنع عن ذلك، صيانة لكرامته قال : «اقرؤوا القرآن، وابتغوا به الله تعالى، من قبل أن يأتي قوم يقيمونه إقامة القدح يتعجلونه ولا يتأجلونه» (مسند أحمد).

3 – إن الحامل لكتاب إنسان غير منتج، فهو يحتاج إلى مساعدات مادية يتلقاها من هنا وهناك، ويحظى باحترام شريحة اجتماعية من كبار السن، يمكن للمجتمع أن يستغني عنه؛ لذلك لا يهتم به إذا ما فاز في مسابقات حفظ القرآن، أو تجويده، أو تفسيره، عكس الرياضيين، والمغنيين، والممثلين، والمهرجين، الذين يستقبلون ويحتفى بهم، اقتصاديا بمكافأة مادية، وإعلاميا بالتعريف بهم، وسياسيا بالتمثيل في البرلمان وغيره، وهذا انحراف خطير في التصور؛ لأن الذي يجب أن نفتخر به هو الذي بوأه الله المكانة الرفيعة في قوله : «يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (سنن الترمذي).

إن الحامل لكتاب الله عرف على مر العصور بعمله الجاد والمثمر، فهو يعلم الصبيان القراءة والكتابة، ومبادئ العلم والأخلاق، ويربي على حسن السلوك والاستقامة، وساهم ولا زال في حفظ أمن الوطن والدفاع عن سيادته، وهو يتقن حرفا تقليدية تساهم في محاربة البطالة، وفي حفظ تراث الوطن وهويته، وكل هذا إنتاج. لذلك وجب على كل عاقل العناية بحاملي كتاب الله تعالى وتوقيره والعض بالنواجد على دستور الأمة حتى ينال شفاعة القرآن، وإلا فالنار أولى به، وصدق رسول الله  حيث قال: «القرآن شافع مشفع وماحل مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه قاده إلى النار» (صحيح ابن حبان).

ذ. محمد البخاري

————-

1 – فتح الباري، ابن حجر، ج9 ص: 67.

2 – المنهاج شرح صحيح مسلم، النووي، ج6، ص: 84.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>